" الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد؛ فإن الذي يدعوني إلى كتابة هذا البحث هو أن مسألة الإقرار بفضل السلف، ووجوب اتباع هديهم ومنهجهم وفهمهم للكتاب والسُّنَّة هو الفارق الأكبر، والفيصل الأظهر بين أهل السنة وبين أصحاب البدع والأهواء، فلذلك لزم كلَّ داعية سلفي أن يفهم هذا الموضوع فهمًا صحيحًا مدعومًا بالأدلة حتى ينجو من الضلال والانحراف، ويتمكن من هداية غيره إلى الصراط القويم. ومن الله أرجو العون والتوفيق.
مَن هُم السلف:
السلف من كل أمة هم القوم المتقدِّمون السابقون، ويقابلهم الخلف الذين يجيئون بعدهم ويخلفونهم، وقد ورد تحديد السلف بأنهم أهل القرون الثلاثة الأولى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وذلك في قوله: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعد ذلك ناس يشهدون ولا يُستشهَدون، ويخونون ولا يُؤتمنون، وينذرون ولا يُوفون، ويظهر فيهم السِّمَن) [ رواه البخاري ومسلم ].
• والقرن في لغة العرب تطلق على أهل كل زمان، وقيل: أربعون سنة، وقيل ثمانون، وقيل مائة، وقيل هو مطلق من الزمان، كذا قال ابن الأثير في "النهاية". والراجح أن المراد به هنا مائة سنة، فقد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر بهذا المعنى، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن بسر المازني - رضي الله عنه -: (لَتَبْلُغَنَّ قرنًا) فعاش مائة سنة[ رواه أحمد والبخاري ]، ومات سنة ثمان وثمانين وهو ابن مائة سنة، كما قال العسقلاني في الإصابة، وهو آخِر مَن مات بالشام من الصحابة.
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قال: (أرأيتم ليلتكم هذه، على رأس مائة سنة منها لا يبقى على ظهر الأرض ممَّن هو على ظهر الأرض أحد). قال ابن عمر: فَوَهِلَ الناسُ في مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يبقى اليوم ممَّن هو على ظهر الأرض) يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن[ رواه البخاري ومسلم ].
وبناء على ما سبق، فيمكننا أن نحدد المقصود بأهل القرون الثلاثة الفاضلة، أنهم الذين عاشوا بين عامي البعثة النبوية، وتمام عام ثلاثمائة للهجرة، وتشمل هذه المدة نحو خمسة أجيال من المسلمين، وهي مجموع الطبقات الاثنتي عشرة التي وضعها الحافظ ابن حجر في كتابه "التقريب" لمن ترْجَم لهم من أصحاب الكتب الستة، وتضم طبقات الصحابة، والتابعين، وأتابع التابعين، وتبع الأتباع، وتبع تبع الأتباع، وهؤلاء هم الذين يشملهم اسم السلف. وإنما أثنى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفها بأنها خير القرون لأن غالب أهل تلك المدة كان يغلب عليهم صلاح المعتقد والسلوك، فكانوا على منهج النبوة والرشاد بخلاف من جاء بعدهم، الذين غلب عليهم الابتداع وسوء المعتقد والعمل، وكان الطالحون الفاسدون فيهم أكثر من الصالحين.
نعم كان في عهد السلف سيِّئون وأشرار ومبتدعون، ولكنهم كانوا قليلين، والغالب على الناس الصلاح والاستقامة بخلاف قرون الخلف التالية، وعلى كل حال فنحن إنما ندعوا إلى اتباع السلف الصالح، وليس أي واحد من السلف، وهؤلاء هم الذين عناهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديثه عن الجماعة كما ورد في كثير من الأحاديث كقوله - صلى الله عليه وسلم -:
(عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة) [ رواه الترمذي وصححه الألباني ] وقوله: (يد الله مع الجماعة) [ رواه الترمذي وصححه الألباني ].
سبب تفضيل السلف ومنهجهم:
وبعد تقرير ما سبق أعود إلى صُلب الموضوع؛ وهو بيان الأسباب التي تدعونا إلى اتباع السلف والدعوة إلى ذلك، وأقول: - إن الذي يدعونا إلى ذلك بكل إصرار وحزم ويقين أمور كثيرة أهمها:
أولًا: - أن هذه القرون قد حظيتْ بثناء الله - تبارك وتعالى - وتزكية رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتجد ذلك في كثير من الآيات والأحاديث، ولو ذهبت إلى استقصائها لطال المقام جدًّا، فأكتفي بذكر ثلاثة مواضع من كلا المَرْجِعَيْن.
فأما القرآن الكريم، فقد قال الله - تعالى - فيه:
أ - ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].
ب - وقال: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ [الفتح: 29].
ج - وقال سبحانه: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 8 ، 10].
وأما الأحاديث النبوية فأكتفي بثلاثة منها:
أ - الحديث الذي سَبق قريبًا، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم)[ رواه البخاري ومسلم ].
ب - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أَحَدِهم ولا نَصِيفَهُ) [ رواه البخاري ومسلم ].
ج - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسَه إلى السماء، وكان كثيرًا ما يرفع رأسه فقال: (النجوم أَمَنَةٌ للسماء، فإذا ذهبَتِ النجومُ أتى السماءَ ما تُوعد، وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعدون، وأصحابي أَمَنَةٌ لأمَّتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمَّتي ما يُوعدون) [ رواه مسلم ].
• وهذه التزكية ثمينة جدًّا لمن يقدُر الأمور حقَّ قدْرها، فحسبها أن تكون من الخالق العظيم، والمدبِّر الحكيم العليم الخبير - سبحانه - ومن رسوله الخاتم، وخير أنبيائه عليهم جميعًا أفضل الصلاة والتسليم، فلا جرم أن اتفق أهلُ السُّنَّة والجماعة على أن السلف خيرُ أجيال البشرية جميعها على الإطلاق حاشا الأنبياء - عليهم السلام.
• ولم يكن هذا مُحاباة من الله - تعالى - ورسوله للسلف، كلا ثم كلا؛ بل كان ذلك لِمَا عَلِمَ اللهُ عنهم من الأهلية والاستحقاق، فكما أن الله - تعالى - قد اختار أنبياءه من صفوة بني آدم كما قال: ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ [الأنعام: 124]، فكذلك حين اختار أصحاب أنبيائه فقد اختارهم مِن خير الناس، وخاصة أصحاب آخرهم وخاتمِهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فهم خير الأصحاب والأتباع كما قال فقيه الصحابة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ونحوه قول الصحابي الجليل عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - : "من كان منكم متأسِّيًا فليتأسَّ بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمَّة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، قومًا اختارهم الله - تعالى - لصحبة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وإقامة دِينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم" جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 947) ط: دار ابن الجوزي، وروي نحوه عن الحسن البصري ( ح ) في ( 2 / 946 ).
• ثم إن الواقع التاريخي ليشهد بصدق هذا الثناء وهذه التزكية، فلم يعرف التاريخ مثل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم ومن اتبعهم بإحسان في إيمانهم وتقواهم، وحُسن خُلقهم، وصدْق تعاملهم، وإحسانهم للخَلق، ورحمتهم بهم، ومعرفتهم بالحق، ووقوفهم عند حدود الله، وعدلهم وإنصافهم، وعفَّتهم ونزاهتهم، ويكفي أن أعداءهم شهدوا لهم بذلك، وقد قيل: والفضل ما شهدتْ به الأعداء.
ثانيًا: - أن الله - تعالى - أمرنا باتباعهم والاهتداء بهديهم، وتوعَّد مَن يُخالف سبيلهم بالعذاب الأليم:
فليس اتباعهم والدعوة إلى الاقتداء بهم نزعةً خاصَّة، أو رأيًا اجتهاديًّا قاله بعض الناس تعصُّبًا لهم، بل هو أمر إلهي صريح، ونصٌّ نبوي صحيح، نطق به الكتاب العزيز، وثبت في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الشريف، فقد قال - سبحانه -: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]. وهل كان المؤمنون عند نزول هذه الآية الكريمة إلا إياهم؟
• وقال جل شأنه: ﴿ قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 136، 137]، وهل كان هذا الخطاب يوم نزول هذه الآية إلا لهم؟
• وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظته البليغة التي وَجِلَتْ منها القلوب وذَرفَت منها العيون، وقال عنها مَن رواها كأنها موعظة مودِّع لأصحابه: (فإنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)[ رواه أبو داود وصححه الألباني ].
• وقال الرؤوف الرحيم - صلى الله عليه وسلم - بأمَّته موصيًا إياها: (اقتدوا باللذيْن مِن بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدْي عمَّار، وتمسَّكوا بعهد ابن مسعود) [ رواه الترمذي وصححه الألباني ].
• ويتضح بصورة قاطعة لا مرية فيها أن الله - تعالى - يأمرنا في هذه النصوص الصحيحة الصريحة باتباع سبيل السلف ومنهجهم وهديهم وفهمهم للدين وتطبيقهم له، بل ويُهدد مَن يخرج عن سبيلهم بأشد عذاب، وأشقى مصير.
• فتأمل معي الآية الأولى، وانظر كيف قَرَنَ الخروجَ عن سبيل المؤمنين بمشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخروج عليه، ولم يكتفِ بتهديد مَن يشاقق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل أضاف إليه تهديد مَن خرَج عن سبيل المؤمنين، وسلْ نفسَك - أخي القارئ -: مَن كان المؤمنون عند نزول الآية غيرَ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فهُم المعنيُّون بذلك أولًا، ثم مَن سار على دربهم، واقتدى بهم مِن بعدهم ثانيًا.
• وهذا نفسه تجده في الآية الثانية؛ إذ أمَر اللهُ - تعالى - المؤمنين أن يؤمنوا بالله وبما أنزل على أنبيائه جميعًا إيمانًا مجْملًا، وبما أنزل على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - إيمانًا كاملا، ثم حكم على الناس بالهداية والرشاد إذا آمنوا إيمانًا مماثلًا ومطابقًا لإيمان الصحابة - رضي الله عنهم - وحكم على مَن يخرج عن إيمانهم، فيؤمن إيمانًا مخالفًا لإيمانهم، ويعتقد ما لم يعتقدوه، أو خلاف ما اعتقدوه، حكم عليه بالضلال والخسران، وبأنه سيكون أمره إلى شقاق وخيبة وخسار. فهو هنا حينما قال: ﴿ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ [البقرة: 137] إنما يخاطب الصحابة دون غيرهم، الذين كانوا وحْدهم المؤمنين في الأرض حينما نزلت هذه الآية الكريمة.
• ثم انتقلْ معي - أخي القارئ - إلى الحديثين الشريفين السابقين فماذا ترى؟ لقد وَعَظَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه في الحديث الأول تلك الموعظة البليغة التي وصَفَها مَن حضَرَها بأنها وصية مودِّع، ومحضهم بتلك الوصية الثمينة - وكلُّ أحد منا حين يُوصي خاصتَه وأحباءه وصية الوداع فإنما يقدم لهم خلاصة ما تعلَّمه في الحياة، وأثمن ما لديه من معرفة وخبرة وتجربة - فماذا كانت تلك الوصية؟
لقد أخبرهم أن الأمَّة بعده ستختلف اختلافًا كثيرًا، وستتمزَّق شيعًا وأحزابًا، وستضلُّ ضلالًا بعيدًا، فدلهم على طريق النجاة، وهداهم إلى سبيل الخلاص، فما كان ذاك الطريق؟ إنه كان في أمرين لا ثالث لهما: أولهما التمسك بسنته - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن السنة هنا هي الشريعة والمنهج، فهي تتضمن مجموع الكتاب والسنة، وثانيهما التمسك بسنة صفوة أصحابه وخُلَّص أتباعه، وهم خلفاؤه الراشدون المهديون - رضي الله عنهم.
• وهنا يردُ سؤال مهم: ترى لماذا لم يكتفِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأمرهم باتباع سُنَّته وطريقته وحْدها؟ أليست كافية لهدايتهم حتى ألحقها بأمره إياهم باتباع سُنة خلفائه الراشدين؟
• إن الجواب على هذا السؤال جدير بالتوقف عنده، وتأمُّله والتفكير فيه لكل من أراد السلامة والنجاة لنفسه وأحبته في الدنيا والآخرة.
• لقد عَلِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يبدو - مما أوحي إليه أن هذه الشيع والأحزاب الضالة التي ستتفرق إليها أمَّته، كل منها سيدَّعي اتباع الكتاب والسُّنة، ولن تستطيع واحدة منها أن تتجرأ على التصريح بالخروج على الكتاب والسُّنة، لأنها إن فعلت ذلك سقطتْ ورُفضتْ من الجميع، فاتخذت هذه الفِرق حيَلًا خبيثة ماكرة، وذلك بادعاء الإيمان بالكتاب والسُّنة واتباعهما لتغرِّر بذلك جماهير المسلمين، ثم تفرغهما من مضمونهما وتلتفَّ على مقاصدهما، وتتخلص من دلالاتهما عن طريق أنواع من التأويل الغريب، ولَيٍّ لعنق النصوص عجيب، فيه كثير من التكلف والتمحل، ولن يعدموا من وساوس الشياطين ما يمدهم بأنواع من التفسيرات المتعسفة، هذا فضلًا عن محاولة رد ما يمكن رده من الأحاديث المناقضة لأهوائهم بشتى الطرق كادعاء ضعفها أو نسخها أو غير ذلك.
فكان من تدبير الله عز وجل المُحْكم لإبطال مكرهم هذا أن أوحى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمرهم إضافة إلى اتباع سُنته المتمثلة في كتاب الله وسُنة رسوله باتباع سُنة أفضل أصحابه وأوثقهم، وهم خلفاؤه الراشدون والصفوة من أصحابه الآخرين مثل ابن مسعود وعمار وأُبَي ونحوهم، لذلك ربَّاهم على عينه، ووثق بفهمهم وسداد منهجهم، وعَلِم عن طريق الوحي الإلهي إخلاصهم الدين لله والاستقامة على أمره، وبذلك أبطل خطتهم الخبيثة، وقطع عليهم سبيلهم المنحرف وأقام عليهم الحجة، فقد حفظ الله - تعالى - الصحابة جميعًا عن هذه المسالك الجائرة، وعلِم - سبحانه - أن أحدًا منهم لن يكون في واحدة منها، ولن يغتر بحيلهم ودعاواهم، وقد اتضح لكل المسلمين أن كل الفِرق الضالة مخالفةٌ لمنهج الصحابة الكرام، وهذا وحده كاف لبيان زيفها وضلالها لمن كان مخْلصًا في معرفة الحق، وجادًّا للوصول إليه.
ثالثًا: - لأن الأدلة من النقل والعقل والواقع التاريخي، والسُّنة الكونية للأمور تثبت أن منهج السلف الصالح هو المنهج الصحيح، وأن فهمهم للكتاب والسنة هو الفهم السديد.
وأن إدراكهم لروح الإسلام ومقاصده وتوجيهاته هو الإدراك الرشيد، وليست هذه دعوى مبنيَّة على العاطفة والحماسة، بل هي حقيقة ناطقة تقررها براهين ساطعات، وبيِّنات راسخات رسوخ الجبال الشاهقات الراسيات، فمن ذلك:
1 - أن سادة السلف وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا عربًا أقحاحًا، رضعوا لغة العرب التي هي لغة القرآن، ولغة نبي الإسلام، رضعوها مع حليب أمهاتهم، وأتقنوا أساليبها ومراميها، وفقهوا بلاغتها ولهجاتها، ولم يحتاجوا لتعلمها عن طريق الكتب والمعلمين بعد الكبر، فلا يستطيع أحد أن ينكر ويكابر في أنهم يمتازون عن أجيال الخلف في هذه الناحية، ويتفوقون عليهم تفوقًا ظاهرًا.
2 - أنهم تلقوا القرآن غضًّا طريًّا، وهو ينزل على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - وعاينوا الأحداث التي مرت بهم وكانت سببًا لنزول كثير من آياته وسوره، فأدركوا مناسبات الآيات، وسياقها ووجهتها، وتفاعلوا معها، وفهموها حق فهمها، وهذا أيضًا جانب آخر مما امتازوا به على من جاء بعدهم.
3 - أنهم سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة دون واسطة فغالب ما نقلوه عنه أخذوه من فيه، وسمعوه فعاينوا لهجته وإشارته، وأدركوا منحاهُ ووجهتَه، وعرفوا مناسبة وروده ومقصده، بينما يحتاج من جاء بعدهم إلى دراسة واسعة وعميقة لعدة علوم. مثل علم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل، وعلم غريب الحديث، وعلم مشكل الحديث، وعلم الرجال والتراجم.. هذا فقط لمعرفة الحديث الثابت الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يثبُت، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي فهم متنِه ومعناه وما يُستنبط منه وما يُستفاد، وهي رحلة شاقة لا يطيقها إلا الأفذاذ من الرجال، فلا أحد يستطيع أن ينكر تفوُّق السلف وخاصة الصحابة في ذلك على كل من عداهم تفوقًا بارزًا جليًّا.
4 - أن السلف الصالح تلقَّوا الإسلام وتعاليمه صافية نقية، لم يخلطوها بثقافات وافدة من أديان وثنية أو كتابية محرفة، أو فلسفات وضعية، أو علوم كلامية، بل كانوا على الفطرة السليمة، فعقولهم نظيفة، خالية من الشوائب والخلافات، صحيح أنهم كانوا قبل الإسلام على عقائد المشركين، لكن الشرك الذي كان في الجزيرة كان شركًا يسيرًا سطحيًّا ساذجًا، لم يستند إلى نظريات معقدة، أو فلسفات مدروسة، فلم تكن له كتب ولا ثقافات، ولا مدارس فكرية وتعقيدات، بل كان مجرد ظنون وأوهام، ما إن بزغت عليها شمس الإسلام حتى أذابتها وأزالتها، ولئن عاند أهلها ودافعوا عنها مدة إلا أنه كان عناد المقلدين المتشبثين بما كان عليه الآباء والأجداد فحسب.
بينما كان الخلف في عامتهم قد أفسد فطرتهم وأضل عقولهم ما درسوه من علم المنطق والفلسفة والكلام، فاختلطت هذه الثقافات، والأفكار، بتعاليم الإسلام وثقافته، وحاولوا الجمع بين الثقافتين، ولكن كان هذا على حساب نقاء تعاليم الإسلام وتوجيهاته، فقدت نفوسهم رواءه، وشوه صنيعهم جماله، وأما السلف فكانوا بمنأى عن كل ذلك، ولهذا تميز فهمهم للدين بالأصالة والصفاء والسلامة من التبديل والتحريف.
5 - أنهم عرفوا حقيقة الجاهلية التي جاء الإسلام للقضاء عليها، لأن بعضهم عاشها بنفسه، والآخرون كانوا حديثي عهد بها، نقلها إليهم أهلوهم وأقاربهم، فلما جاء الإسلام ميزوا بينه وبين الجاهلية، وأدركوا البون الشاسع بينهما، بينما فقد المتأخرون من أجيال الخلف معنى الجاهلية الحقيقي، فاختلط عليهم الأمر، فسوغوا أمورًا في الإسلام هي من الجاهلية، والإسلامُ منها براء، وخذ مثلًا على ذلك، أمرًا مشاهدًا وملموسًا في كثير من بلاد الإسلام وهو تعظيم الأولياء والصالحين، وقصد قبورهم وبناء أضرحتهم، والطواف حولها، والتبرك بها، والتوسل إلى الله بها، بل والنذر لها والذبح لها والاستغاثة بها، ذلك كله يظنه كثير من المسلمين في العالم الإسلامي اليوم مع الأسف جائزًا ومشروعًا، بل يعتقدون أنه من القربات التي يحبها الله ويرضاها، ويقرب مَن يتعاطاها، مع أن نصوص القرآن والسُّنة مستفيضة في إنكار ذلك ونقضه، لكنهم يظنون أن الإنكار كان منصبًّا على عبادة الأصنام فقط، وأما إذا توجه التقديس والعبادة لغير الأصنام كالأنبياء أو الأولياء فليس في ذلك بأس، وليس محل إنكار، ولو أمعنت النظر في سبب ذلك لوجدته في عدم معرفة حقيقة الجاهلية التي حاربها الإسلام.
• كثير من مسلمي اليوم يظنون أن التوحيد الذي هو لبُّ الإسلام وأسُّه هو الإيمان بوجود الله الخالق البارئ الرازق المحيي المميت الضار النافع المدبر للأمور جميعًا - وهو ما يسمى بتوحيد الربوبية - ليس غير، مع أن هذا النوع من التوحيد وإن كان لازمًا وحقًّا إلا أنه لا يدخل صاحبه في الإسلام، ولا ينجي صاحبه من عذاب النار، ولا يدخله الجِنان، وقد كان يقر بهذا النوع أئمة الكفر ورؤوس الشرك؛ مثل: أبي جهل، وأبي لهب، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأخنس بن شريق، والوليد بن المغيرة، والقرآن الكريم يقص ذلك علينا بأوضح بيان كقوله سبحانه: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 61 - 63]. وقال جل شأنه: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 31].
نعم كان الجاهليون يقرُّون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر للأمور كلها، ومع ذلك يتوجهون بالتعظيم والتقديس والعبادة معه إلى الأوثان والأصنام، لا لأنهم يعتقدون أنها تنفع وتضر أو أن بيدها الأمر، كلا بل يعتقدون أنها واسطة تقربهم إلى الله - تعالى - وتشفع لهم عنده. وقد ذكر ذلك القرآن الكريم أيضًا فقال سبحانه فيه: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]، وقال جل شأنه: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [يونس: 18].
وهذا نفسه ما يغفله كثير من مسلمي اليوم، وهم يظنون العبادة محصورة في الصلاة والصوم والزكاة والحج، ولا يفهمون أن النذر عبادة والذبح عبادة، والحلف عبادة، والتوكل عبادة، والرغبة والرهبة والحب والطاعة والانقياد والتذلل والتقديس، وأهم من ذلك كله الدعاء والاستغاثة أنها كلها من صميم العبادة، مع أن النصوص في ذلك متضافرة وكثيرة جدًّا وأنها يشملها ما اصطلح عليه العلماء بتوحيد الألوهية، بالإضافة إلى توحيد الأسماء والصفات، بل إن بعض المتعالمين من كتاب زماننا يدعي أن أنواع التوحيد هذه هي بدعٌ وهابيَّة، وليست من الإسلام في شيء، فتأمل، وابك معي على غربة الإسلام الذي وصل المسلمون فيه إلى أن جعلوا الشرك إسلامًا والإسلام شركًا، فانطبق عليهم قوله - سبحانه -: ﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ [يوسف: 106]، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
• أما السلف فقد كانت عقيدة التوحيد بأنواعها من ربوبية وألوهية وتشريع وأسماء وصفات واضحة لا لبس فيها ولا غموض. وما ذلك إلا لأنهم عرفوا الجاهلية فاجتنبوها، وجهِل الخلفُ الجاهليةَ فوقعوا فيها، ولذلك كان فاروق هذه الأمة الخليفة الراشد الثاني عمر - رضي الله عنه - محدَّثًا وملهَمًا حينما تخوَّف من ذلك فقال: "إني أخشى أن ينشأ في الإسلام قوم لا يعرفون الجاهلية، من لا يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام" أو كمال قال.
6 - أن طبيعة الأشياء، وسُنة الله في الدعوات في الحياة، لتؤكد أن أي دعوة أو فكرة تظهر في الحياة، سواء كانت إلهية أو وضعية بشرية، فإنها تكون على حقيقتها وأصلها عند ظهورها وأول نشوئها في عهد الداعي الأول إليها، وأنها ما إن يمر عليها حين من الدهر إلا وتبدأ يد التغيير والتبديل تعمل فيها، وكلما أوغلت في الزمن ازداد هذا التغيير والتبديل، تمامًا كنبع الماء إذا نظرتَ إليه أولَ تفجُّرِه من الأرض فستراه رقراقًا صافيًا، نظيفًا رائقًا، ولكنك إذا انتقلتَ إليه بعد عدة أميال فسيهولك ما تراه عليه من الكدر والنتن، والأوساخ والأوشاب.
• وهذا الذي جرى على دعوات الأنبياء تمامًا، فنحن نعلم علم اليقين أن إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - ما دعوا إلا إلى التوحيد، ثم ها هي دعوتهما بعد حين تنقلب على يد أتباعهما من العرب وغيرهم إلى شرك أكبر وعبادة أصنام، وهذا موسى وهارون وعيسى وأنبياء بني إسرائيل كلهم ما دعوا إلا إلى التوحيد، ثم ها هي دعواتهم تنقلب بعد مدة على أيدي أتباعهم إلى شرك ودعوى أن لله ولدًا، وأن الإله ثالث ثلاثة، وأنه ينام ويندم ويعرض له ما يعرض للبشر. فما سبب ذلك؟ إنه لا شك تدخل البشر في دين الله، وإضافتهم إليه ما يرونه من آراء، وحذف ما لا يروقهم من أحكام، وتعديل ما يرونه من شرائع، وهكذا.
• وقد وقع هذا نفسه لديننا الإسلامي الحنيف الذي جاء به محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بنفسه فقال: (لتتبعن سَنن مَن كان قبلكم شبرًا بشبر، و ذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!)[ رواه البخاري ومسلم ].
• وروى الصحابي الجليل وأمين سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - فقال: "كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله. إنا كنا في جاهليته وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم). قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم وفيه دخَن). قلت: وما دخَنُه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر). قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم: دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها). قلت: يا رسول الله. صِفْهُم لنا: قال: (هم مِن جِلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا). قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم). قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفِرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)"[ رواه البخاري ومسلم ].
• فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم عما سيقع، ووقع كما أخبر، وهذا من دلائل نبوَّته - صلى الله عليه وسلم - فقد بيَّن أن الإسلام سيتغير بفعل الناس، الذين يضيفون إليه تفسيراتهم، وثقافاتهم، وأهواءهم، ويغيرون فيه ويبدلون، ويزيدون وينقصون، حتى يصبح المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، كما ثبت في بعض الأحاديث، وحتى إذا ترك الناس البدعة قالوا: تركت السنة كما في أثر ابن مسعود - رضي الله عنه.
• أما السلف الأول فيكون الدين لديهم حديث عهد بالنزول، يكون صافيًا نقيًّا، تحرسه يد النبوَّة، وتحفظه سلامة الفطرة وصحة المنهج، ويستمر زمن الخلافة الراشدة على ذلك، ثم يبدأ التغيير فيه، ولكن الغلبة تكون في عهد السلف للفهم الأصيل، وكلما قرب هذا العهد من نهايته كلما قوي تيارُ البدعة والأهواء، حتى إذا بدأ عهد الخلف كانت الغلبة لتيار البدعة والأهواء، ويبقى الصراع بين المذهبين حتى يأذن الله - سبحانه - بعودة الخلافة الراشدة من جديد، فتعود الحياة ثانية لمنهج السلف الرشيد، ويتقهقر تيار البدعة والأهواء إلى بعيد بعيد ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ﴾ [الرعد: 17] ليمتحن الله العباد، ويمحص الحق، ويبطل الفساد، ولله في خلقه شؤون، لا يعلمها إلا من يقول للشيء كن فيكون.
7 - وأما الواقع التاريخي فواضح جليٌّ للعيان، فمن يجهل ما كان عليه سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - من الفهم الصحيح المعتدل الراشد للإسلام، ومن يجهل ما كانوا عليه من السيرة الحميدة، والسلوك الرشيد، والتعامل الأمين، والصدق والعفة والإخلاص، وحسن الخلق، والعدل، والرحمة والإحسان مع جميع الناس مسلمهم وكافرهم؟ بل وانتقل ذلك إلى الحيوان الأعجم، والجماد الأصم، فكانوا واقعًا عمليًا لا كلامًا نظريًا، رحمة للعالمين، ولم يعرف التاريخ أرحم ولا أعدل ولا أتقى ولا أزكى ولا أطهر ولا أعبد ولا أخشى ولا أخشع، ولا أكثر مراقبة لله واستقامة على أمره منهم على مر الأزمان.
نعم لا أقول: إنهم معصومون، بل هم بشر يخطئون ويصيبون، ولكنهم أفضل البشر وخير البشر أجمعين.
رابعًا: - وأخيرًا فإننا ندعو إلى اتباع هدي السلف الصالح، ومنهجهم وطريقتهم وفهمهم للدين؛ لأن ذلك هو الطريق الوحيد لتحقيق الوحدة الإسلامية عمليًّا، والحفاظ عليها، هذه الوحدة التي هي من أعز أهداف المخلصين، والتي ينشدها المصلحون، والتي هي من أهم أسباب النصر والتمكين، والتي يتوق إليها جمهور المسلمين، ويرفع شعارها الزعماء والقادة، يخطبون بها وُدَّ الناخبين، ويستميلون تأييدهم في المناسبات، ويستثيرون حماستهم ومحبتهم في الانتخابات.
إن كل المسلمين المعدودين من أهل القبلة يدَّعون الإيمان بالكتاب والسُّنة والالتزام بهما والاهتداء بهديهما، ومع ذلك تجد بينهم الخلاف والشقاق على أشدهما فلماذا؟
• إن ثمة أسبابًا كثيرة، ولكن أهمها وأكبرها الاختلاف في فهم الكتاب والسنة، فكل فرقة تتبنَّى فهمًا للكتاب والسنة مغايرًا لفهم الفِرق الأخرى، وكل منها يدَّعي الفهم الصحيح، ولا يتنازل عنه. فما هو المخرج وما هو الحل؟
• إن لكل منها أعلامه وآراءه، ومذهبه وأحكامه، فإذا جعلنا فهم أحدها هو الأصل المتبع، فسيرفض ذلك الآخرون، ويحتجون عليه، ويقولون: لماذا كان ذلك الفهم هو المتبع، وليس فهمنا؟ إن هذا تمييز بلا مبرر، ولن يقبل أبدًا. وأما إذا قلنا للجميع: ليدع كل منا فهمه ورأيه وطريقته، ولنرجع جميعًا إلى فهم مَن نُقِرُّ جميعًا بفضلهم، ونثق بعلمهم واستقامتهم ودينهم، وذلكم هو فهم خير الأمَّة وأفضلها، وأنقاها وأعلمها، وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأبرار، وآل بيته الأطهار، الذين مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، وثبتوا على العهد، ولم يغيروا ولم يبدلوا، إننا إذا فعلنا ذلك فلن يجد أحد منا غضاضة، ولن يثير ذلك في أي منا حساسية، فهذا هو الحل الأمثل، والمخرج الأفضل، لأن حب الصحابة الكرام، وآل البيت الأعلام مما يُجمع عليه المسلمون جميعًا، وهو القاسم المشترك الأعظم بينهم، وبالإضافة إلى ذلك فهو المنهج الأقوم والسبيل الأسلم المؤيَّد بالحجة، والمدعوم بالبيِّنة، والمستند إلى الوحي المعصوم كما سبق بيانه قريبًا.
وبهذا يتحقق الحلم الكبير لأمة الإسلام، هذا الحلم الذي سيكون مفتاحًا للفتح المبين، والنصر العظيم على الحاقدين والشانئين، وهو سبيل العزة والتمكين للإسلام والمسلمين في العالمين بعون الله وتأييده، ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 4، 5].
• فيا أبناء الإسلام، ويا من هو حريص على ما فيه خير الإسلام والمسلمين وعزتهم، ويا من يغار على مصالحهم وسعادتهم، هذا هو الطريق، فلنجتمع عليه، ولنسْعَ إليه، بكل قوة وصدق وإخلاص، فكفانا خلافًا ونزاعًا، وعداوة وشقاقًا، ولنضع أيدينا بعضها في بعض، ولنجتمع على كلمة سواء، ولندَعْ كل أسباب الفرقة، ولنأخذ بأسباب الوحدة، فإننا إذا فعلنا ذلك فلنستبشر بنصر الله وتأييده، وعونه وتسديده.
فعسى أن يلقى هذا آذانًا مصغية من المخلصين، وسعيًا وجدًّا من الصادقين، وما توفيقنا إلا بالله، والحمد لله رب العالمين ".
« أ.د محمد عيد العباسي »