" ظاهرة أخرى من هذه الظواهر الغريبة التي لا تزال تصدمُنا بها حضارةُ هذا الزمان؛ حضارة التنصُّل من القيود الدينية، والعادات الاجتماعية، حضارة التحليق في تلبية رغبات الذات، واهتبال الشهوات والملذَّات، تحت شعار الحرية الفردية، والاقتناعات الشخصية.
إنها ظاهرةُ لُبْس الثياب الممزَّقة، والسراويل المشقَّقة، والأقمشة المخروقة التي ضجَّت بها الأسواق، وسالت بها الشوارع، وتأذَّتْ منها العيون، وقُصِفَتْ بها القلوب، وصُدِمت بها النفوس، منذ ما يُقارب عشر سنوات، تقليدًا لبعض "نجوم" الفن والغناء، وأبطال التمثيل والرياضة الذين احتلُّوا من نفوس بعض شبابنا موقع القُدْوة التي يجب أن تُقتفى، والأُسوة التي يجب أن تُحتذى، غير آبهين بتعاليم ديننا الحنيف في اللباس، ولا بتقاليد مجتمعاتنا الإسلامية المحافظة، ولا بأنظار الناس الذين تشمئزُّ نفوسُهم من هذه الصيحات العجيبة، والموضات الغريبة التي تريد أن تثورَ على ما تعارَفَ عليه الناس، وترتدُّ عمَّا ألِفوه من ثوب الحشمة والوقار، ولباس العِفَّة والسَّتر.
أثوابٌ لا تصلُح لدَرء حَرٍّ ولا لدَفْع بَرْدٍ، ممزَّقةٌ من أمام ومن خلف، فتمزَّقَ معها الحياءُ، وذهبت معها هيبة العفاف.
رُكَبٌ بادية، وسُرَر عارية، كتوف موصوفة، وصُدور مكشوفة، وربما اكتسح التمزيق العورات، فلم يروا بأسًا في كشف السوءات، مع أسمالٍ مترهِّلة بالية، ولُطاخةٍ من ألوان باهتة شاحبة، وعِشاش من خيوطٍ تائهة متدلية، وحواش مشرئبَّة ناتئة، لا مكفوفة ولا منظومة، كأنما عبث بها كَرُّ الحَدَثان، أو أتَتْ عليها قوارض الجِرذان، أو رفستها أظلافُ الثيران، أو عمِلت فيها براثن الأُسْدان.
بل هناك حديقة حيوان في مدينة "هيتاشي" شمال طوكيو في اليابان، تمكَّنت من زيادة الدخل الشهري بعد بيع سراويل "جينز" مصنوعة من قماش تَمَّ لَفُّه حول دواليب وألعاب، أُلقيت على أرضية الحديقة، ليتم تمزيق القماش وتخريقه بمخالب وأنياب الأسود والدِّبَبة، وليعاد جمعه واستعمالُه في تصميم سراويلِ "جينز" شبابيةٍ ممزقةٍ طبيعيًّا، اعتمادًا على مخالب وأنياب الحيوانات المفترسة.
لم تعد الأثواب البالية والممزَّقة والمرقَّعة من سمات الفقراء الذين يشكون ضيقَ العيش، وقلة ذات اليد، بل بيعت ثياب هؤلاء الفقراء المعتادة في أكبر الأسواق الممتازة الدولية، ووُضِعت عليها علامات صارت تُسمَّى بـ"العالمية"، ليصل ثمن القطعة الواحدة منها إلى ألف درهم أو يزيد، يفتخر الذكور والإناث بلُبسها، ويتباهون بها في الشوارع العامة التي ضجَّت بالمغريات، وارتفعت فيها نِسَبُ التحرُّشات، والله تعالى يُوصي نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 59].
يفعلون ذلك إما تقليدًا للمشاهير، وإما مسايرةً عمياءَ لِما عليه أبناء الجيل، ممَّن يهتمُّون بصيحات اللياقة، ويتتبَّعُون برامج المظاهر والأناقة، ومجلات الأزياء والرشاقة، وإما لفِقدان الشعور بالقيمة، بحيث صار بعض الشباب لا يشعُرون بمن ينظر إليهم، ولا مَنْ يزدري بمظهرهم، وإما للفت الأنظار، إثباتًا للشخصية المهزوزة غير الواثقة، واستشعارًا للهُوِية المشتَّتة المترنِّحة، وإما للبحث عن السَّمْت المتميِّز، ولو بالدنيء المقزِّز، وإما للغرابة والخروج عن المألوف، تمرُّدًا على أصول الآباء والجُدود، وإما لإثبات رُوح التحدِّي والقُدْرة على الثورة على المعتقدات والمقدَّسات والمسلَّمات، وإما تزجيةً للفراغ الذي يُسيطر عليهم، ويملأ عليهم أقطار حياتهم، وإما لتغطية الشُّعور بالنقص، واعتقاد أن هذه الملابس ستجعل منهم شبابًا أكثر تميُّزًا وأناقةً.
وما علِموا أنهم صاروا أدوات طيِّعةً تتلاعب بها أفكار اللوبي الاقتصادي العالمي الذي لا هَمَّ له سوى البحث عن المال، ولو على حساب الأخلاق والمبادئ، مرتكزه سطوة الجسد، الذي صار عندهم موضوعًا للإثارة كما التجارة، وجَعَل الشركات العالمية المتخصِّصة، تجتهد وترُكِّز كل خبراتها في ابتداع معاييرَ لِلباس محددة، يتسابق المستهلك للخضوع لها، انطلاقًا من وزن الجسد، وطوله، ودِقَّته، واستدارة الوجه أو استطالته، وشكل العينين ولونهما، وشكل البشرة ولونها، ونوع الشعر وقصَّاته، وألوان الوشم وأشكاله، فتتسابق التصاميم لعرض مفاتن هذا الجسد، وإبراز ما ظهر منه وما خفِي، في سبيل تحديد معايير للجمال بائسة، وقوانين للأناقة يائسة، فنكون نحن - الذين نهتمُّ بهذه الصيحات الفارغة - طُعْمًا سائغًا لهذه التوجُّهات العالمية المغرضة، ولُقَمًا سائغة في أفواه دهاقين التجارة العالمية.
والعجيب أن ظاهرة الثياب الممزَّقة لم تقف عند حدود الشوارع، والمتنزَّهات، والمقاهي، والنوادي الرياضية، والملاهي الليلية؛ بل امتدَّتْ إلى حُرَم التربية ومؤسسات التعليم، وبخاصة الجامعات، مما حدا ببعض الغيورين في بعض الدول العربية إلى أن يُنادوا بإخراج قانون صارم يمنع هذه الظواهر في مؤسسات التربية، وفي ميدان الصحافة، وفي المؤسسات الدينية؛ بل إن أُسقفًا نصرانيًّا في إحدى البلاد العربية، منع دخول الفتيات اللاتي يرتدين الملابس القصيرة والسراويل المقطَّعة إلى الكنيسة؛ بل العجب أن إدارة معهد "لاساجِس" بمدينة فالنسيان الفرنسية، مَنعَتِ التلاميذ من دخول الأقسام بملابس ممزَّقة، وأجبرتهم على العودة إلى منازلهم لتغييرها بملابس تليق بالمؤسسة التربوية.
كما فرض مجلس مدينة تابع لولاية فلوريدا الأمريكية غرامة مالية تصل إلى 500 دولار، على مَنْ يرتدي سراويل "جينز" تكشف مسافة أكثر من خمسة سنتيمترات تحت الخَصْر، وحظرت كوريا الشمالية ارتداء "الجينز" ذي اللون الأزرق على مواطنيها؛ لأنه يُشير إلى استعمار كوريا الشمالية.
وتشير بعض البحوث إلى أن مبتكر هذا النوع من الثياب هما يهوديان شاذَّان، تظاهرا بمناصرة ثياب الفقراء؛ ليكون القصد كشف العورات، وتدمير المجتمعات.
وها نحن في الطريق - مع الأسف - لاستيراد تنُّورات البنات اليونانية، ليلبسها الرجال تحت مُسمَّى الموضة، وما يُسمَّى بـ"الأزياء المشتركة بين الجنسين"، مع ملاحظة ازدياد إقبال الذكور على عمليات التجميل، واستعمال المساحيق والأصباغ، مما يُنتظر معه اضطراب الهُوِيَّة الجنسية؛ ليميل الذكور إلى الأُنوثة والليونة، ويزداد البنات ذكوريةً وخشونةً.
لم يكن ديننا الإسلام ليُعارض الجمال والأناقة وحُسْن المظهر، إذا مُورِسَتْ أسبابُه بضوابطها الشرعية، التي لا تذهب بصاحبها إلى التيه والرياء، أو خدش الأخلاق بالتمرُّد والاعتداء؛ قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 31، 32]، قال الزمخشري: "﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ ﴾؛ أي: ريشكم ولباس زينتكم... وقيل: الزينة المشط، وقيل: الطيب، والسُّنَّة أن يأخُذ الرجل أحسن هيئته للصلاة".
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حَسَنًا، ونعلُه حَسَنةً، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ جميلٌ يُحِبُّ الجمال))، وعن أبي الأحوص عن أبيه قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني رثَّ الثياب، فقال: ((ألَكَ مالٌ؟))، قلت: نعم، يا رسولَ الله، من كل المال، قال: ((فإذا آتاكَ اللهُ مالًا، فَلْيُرَ أثرُه عليكَ))؛ صحيح سنن النسائي، وفي رواية أخرى: ((فإن الله يُحِبُّ أن يَرى أثَرَهُ على عبده حَسَنًا، ولا يُحِبُّ البُؤْسَ ولا التَّباؤسَ)).
وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: لما خرجت الحروريَّة (طائفة من الخوارج)، أتيتُ عليًّا رضي الله عنه، فقال: ائتِ هؤلاء القوم، فلبست أحسن ما يكون من حُلَل اليمن - قال أبو زميل: وكان ابن عباس رجلًا جميلًا جهيرًا (أي: ذا منظر بهي) - قال ابن عباس: فأتيتهم، فقالوا: مرحبًا بك يا بن عباس، ما هذه الحُلَّة؟ قال: ما تعيبُون عليَّ؟ لقد رأيتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحْسَنَ ما يكون من الحُلَل"؛ صحيح سنن أبي داود.
وقال عمر رضي الله عنه: "إذا وسَّعَ اللهُ فأوسِعُوا"؛ البخاري.
هذا ديننا، وهذه أخلاقُنا:
جمال في غير إسراف ... وأناقة في غير إسفاف ".
« د. محمد ويلالي »