« من صفات التاجر المسلم »
" الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
فقد حثت الشريعة على العمل ورغَّبت فيه؛ فعن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيَّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده))[ رواه البخاري باب: كسب الرجل وعمله بيده ]؛ وذلك لأن في العمل التعفف عن ذلة السؤال والاحتياج إلي الغير[ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ج: 5، ص: 1889 ].
وتعتبر التجارة من أهم أبواب الكسب ومصادر تحصيل الرزق؛ وفيها يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾[النساء: 29]؛ قال قتادة: "التجارة رزق من رزق الله، وحلال من حلال الله لمن طلبها بصدقها وبرها" [ جامع البيان في تأويل القرآن، ج: 8، ص: 221 ].
وقد عدَّ صلى الله عليه وسلم كسبَ التجارة من أطيب المكاسب؛ ففي الحديث عن رافع بن خديج قال: ((قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ قال: كسب الرجل بيده، وكل بيع مبرور))[ شعب الإيمان، التوكل بالله تعالى والتسليم لأمره تعالى في كل شيء ].
وعن علي بن الفضيل قال: "سمعتُ أبي وهو يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد[ وهو ترك ما ينفع في الآخرة ]، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام، كيف ذا؟ فقال ابن المبارك: يا أبا علي، إنما أفعل ذا؛ لأصون به وجهي، وأكرم به عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقًّا إلا سارعت إليه حتى أقوم به"[ طبقات الفقهاء الشافعية، ج: 1، ص: 445 ].
وإنه من الأمور التي ينبغي على التجار الإلمام بها فقه المعاملات التجارية؛ لأن الشريعة ليست عقائدَ وعباداتٍ فقط، بل هي معاملات أيضًا، والمسلم مطالب بأن يحصِّل الضروريَّ من فقه العبادات والمعاملات؛ أي: المقدار الذي تصح به عباداته ومعاملاته، فالعبادات لها أركانها وشروطها التي لا تصح إلا بها، وكذلكم المعاملات التجارية من البيع والشراء وغيرها، فهي أيضًا لها أركانها وشروطها التي لا تصح إلا بها، وإلا وقع المسلم في المحظور؛ ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقول: ((لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين))[ سنن الترمذي، باب: ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ].
ومن ليس بفقيه في هذا الباب، فعليه أن يسأل من هو أفقه منه؛ فالله تعالى يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وقد كان التجار في القديم إذا سافروا، استصحبوا معهم فقيهًا يرجعون إليه [ البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ج: 5، ص: 282 ]؛ وذلك حتى تكون معاملاتهم وفق ما أقرته الشريعة وجاءت به.
فالمسلم الحقُّ لا يقدم على أمرٍ حتى يعرف حكم الله فيه، وإلا وقع في انتهاك حرمات الله، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي زمان لا يبالي فيه الإنسان من أين يكتسب المال؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام))[ صحيح البخاري، باب من لم يبالِ من حيث كسب المال ].
وهذا إنما يكون لضعف الدين وعموم الفتن، وقد أخبر عليه السلام أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنذر كثرة الفساد، وظهور المنكر، وتغير الأحوال، وذلك من علامات نبوته عليه السلام[ شرح صحيح البخاري لابن بطال، ج: 6، ص: 201 ].
والوقوع في الحرام منذر بشرٍّ كبير، وخطر عظيم؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبرَ، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟))[صحيح مسلم،باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها ]؛ أي: من أين يُستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له[ المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ج: 7، ص: 100 ].
وفي الحديث عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه))[ المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، باب كراهية طلب العلم لغير الله ]؛ أي: يُسأل عن ماله: من أين اكتسبه، أمن حرام أو حلال؟ وفيمَ أنفقه، أفي طاعة أم معصية؟[مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ج: 8، ص: 3854.].
هذا، وقد وردت نصوص كثيرة تبين صفات التاجر المسلم، وأهم ما ينبغي أن يلتزم به في تجارته؛ إذ التاجر المسلم داعية إلى دين الله بسلوكه وحسن تعامله مع الناس، فهو داعية بلسان الحال وإن لم يكن كذلك بلسان المقال، وقد ذكر بعض أهل العلم تحليلًا لكلمة "تاجر"؛ حيث قال: التاء تعني: تقوى، والألف: أمين، والجيم: جسور، والراء: رحيم، فالتاجر المسلم تقيٌّ أمين جسور رحيم[فقه التاجر المسلم، ص: 6]
ومن الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها التاجر:
الصدق والأمانة: وهما أرفع صفات التاجر المسلم، وبهما مدح النبي صلى الله عليه وسلم التجار؛ فعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء))[ سنن الترمذي، باب ما جاء في التجار، وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ]؛ أي: من تحرَّى الصدق والأمانة، كان في زمرة الأبرار من النبيين والصديقين[تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، ج: 4، ص: 335 ].
فالصدق خلق رفيع، حث الله عليه في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]؛ قال القرطبي: "فحق مَن فهِم عن الله وعقل عنه أن يلازمَ الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك، لحِق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار"[ تفسير القرطبي، ج: 8، ص: 289 ].
ومن الأمور التي ينبغي أن يصدق فيها التاجر: الصدق في وصف السلعة، وفي مقدار الربح إن أظهره للمشتري؛ فالإسلام يريد بناء المعاملات على الصدق والأمانة والنصح، وينهى عن الخداع والتغرير والتدليس؛ لما يجره من غشٍّ يترتب عليه العداوة والبغضاء، وأكل أموال الناس بالباطل[ توضيح الأحكام من بلوغ المرام، ج: 4، ص: 334 ]؛ فعن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صُبرةِ طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشَّ، فليس مني))[ صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا)) ]
والغش معناه: كتم عيب المبيع، والمراد بالعيب: كل وصف يعلم من حال آخذه أنه لو اطلع عليه لم يأخذه بذلك الثمن الذي يريد بدله فيه[دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين،ج: 8، ص: 423 ]؛ يقول الصنعاني: "والحديث دليل على تحريم الغش، وهو مجمع على تحريمه شرعًا، مذموم فاعله عقلًا"[سبل السلام، ج: 2، ص: 39 ].
ومن صور الغش: النجش؛ وهو أن يزيد الإنسان في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، بل ليوقع غيره فيها، أو يمدح المبيع بما ليس فيه ليروِّجَه، ويقع ذلك غالبًا بمواطأة مع البائع فيشتركان في الإثم، وقد يقع ذلك أحيانًا بغير علم البائع، فيأثم الناجش وحده، وبيع النجش باطل وحرام؛ لما فيه من خديعة المسلم، وأكل المال بالباطل[موسوعة الفقه الإسلامي، ج: 3، ص: 421]؛ فعن عبدالله بن عمر: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النَّجْشِ))[صحيح البخاري، باب ما يكره من التناجش ].
السماحة: ويقصد بها التيسير في المعاملة والرضا بيسير الربح وحسن الطلب[شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، ج: 3، ص: 512]، وهي من أخلاق المسلم التي عليه التحلي بها؛ فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحِمَ الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى))[ صحيح البخاري،باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع، ومن طلب حقًّا فليطلبه في عفاف ]؛ ففي هذا الحديث: الحض على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المُشاحَّة في البيع، وذلك سبب لوجود البركة فيه؛ لأن النبي عليه السلام لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة، فأما فضل ذلك في الآخرة، فقد دعا عليه السلام بالرحمة لمن فعل ذلك، فمن أحب أن تناله بركة دعوة النبي عليه السلام، فليقْتَدِ بهذا الحديث ويعمل به[ شرح صحيح البخارى لابن بطال، ج: 6، ص: 211 ].
ومن حسُنت نيته في هذا الباب، كافأه الله يوم القيامة بحسن الجزاء؛ فعن حذيفة قال: ((أُتيَ الله بعبدٍ من عباده آتاه الله مالًا، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال: ولا يكتمون الله حديثًا، قال: يا رب، آتيتني مالك، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أتيسر على الموسر، وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي، فقال عقبة بن عامر الجهني وأبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعناه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم))[ صحيح مسلم، باب فضل إنظار المعسر ]؛ففي هذا الحديث: فضل إنظار المعسر، والوضع عنه قليلًا أو كثيرًا، وفضل المسامحة في الاقتضاء من الموسر، وفيه عدم احتقار أفعال الخير، فلعله يكون سببًا للسعادة والرحمة[ شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، ج: 7، ص: 2116 ].
ومن المسامحة في البيع الإقالة، وهي فسخ العقد ورجوع كل من المتعاقدين بما كان له[ موسوعة الفقه الإسلامي، ج: 3، ص: 439 ]
بمعنى: أن يشتريَ الإنسان شيئًا ثم يظهر له عدم حاجته إليه، فيطلب الإقالة وفسخ العقد؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أقال عثرةً أقاله الله يوم القيامة))[ مسند الإمام أحمد، مسند أبي هريرة ]، وإنما كانت الإقالة مشروعة؛ "لما فيها من التيسير على الناس، وتخليصهم مما يظنون أنه ورطة يندمون على الوقوع فيها، فقد يعقد أحدهم عقدًا ثم يرى أنه مغبونٌ فيه، أو أنه ليس بحاجة إليه، فيبقى في غمٍّ وكرب، ويكون في إقالته منه تنفيسٌ لكربه وتفريج لغمِّه، وفي ذلك من الأجر ما فيه"[ الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ج: 6، ص: 47 ].
وبالتزام هاته الآداب وغيرها، ينجو التاجر من ويلات التجارة ومزالقها؛ فعن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده: ((أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: يا معشر التجار، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: إن التجار يُبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى الله وبرَّ وصدق))[ سنن الترمذي، باب ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ]؛ أي: إنه لما كان ديدن بعض التجار التدليس في المعاملات، وعدم التورع عن الأيمان الكاذبة لترويج السلع، حكم عليهم بالفجور، واستثنى منهم من اتقى المحارم وبرَّ في يمينه، وصدق في حديثه[ تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، ج: 4، ص: 336 ] ".
« الشيخ : الدخلاوي علال »
" الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
فقد حثت الشريعة على العمل ورغَّبت فيه؛ فعن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيَّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده))[ رواه البخاري باب: كسب الرجل وعمله بيده ]؛ وذلك لأن في العمل التعفف عن ذلة السؤال والاحتياج إلي الغير[ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ج: 5، ص: 1889 ].
وتعتبر التجارة من أهم أبواب الكسب ومصادر تحصيل الرزق؛ وفيها يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾[النساء: 29]؛ قال قتادة: "التجارة رزق من رزق الله، وحلال من حلال الله لمن طلبها بصدقها وبرها" [ جامع البيان في تأويل القرآن، ج: 8، ص: 221 ].
وقد عدَّ صلى الله عليه وسلم كسبَ التجارة من أطيب المكاسب؛ ففي الحديث عن رافع بن خديج قال: ((قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ قال: كسب الرجل بيده، وكل بيع مبرور))[ شعب الإيمان، التوكل بالله تعالى والتسليم لأمره تعالى في كل شيء ].
وعن علي بن الفضيل قال: "سمعتُ أبي وهو يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد[ وهو ترك ما ينفع في الآخرة ]، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام، كيف ذا؟ فقال ابن المبارك: يا أبا علي، إنما أفعل ذا؛ لأصون به وجهي، وأكرم به عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقًّا إلا سارعت إليه حتى أقوم به"[ طبقات الفقهاء الشافعية، ج: 1، ص: 445 ].
وإنه من الأمور التي ينبغي على التجار الإلمام بها فقه المعاملات التجارية؛ لأن الشريعة ليست عقائدَ وعباداتٍ فقط، بل هي معاملات أيضًا، والمسلم مطالب بأن يحصِّل الضروريَّ من فقه العبادات والمعاملات؛ أي: المقدار الذي تصح به عباداته ومعاملاته، فالعبادات لها أركانها وشروطها التي لا تصح إلا بها، وكذلكم المعاملات التجارية من البيع والشراء وغيرها، فهي أيضًا لها أركانها وشروطها التي لا تصح إلا بها، وإلا وقع المسلم في المحظور؛ ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقول: ((لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين))[ سنن الترمذي، باب: ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ].
ومن ليس بفقيه في هذا الباب، فعليه أن يسأل من هو أفقه منه؛ فالله تعالى يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وقد كان التجار في القديم إذا سافروا، استصحبوا معهم فقيهًا يرجعون إليه [ البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ج: 5، ص: 282 ]؛ وذلك حتى تكون معاملاتهم وفق ما أقرته الشريعة وجاءت به.
فالمسلم الحقُّ لا يقدم على أمرٍ حتى يعرف حكم الله فيه، وإلا وقع في انتهاك حرمات الله، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي زمان لا يبالي فيه الإنسان من أين يكتسب المال؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام))[ صحيح البخاري، باب من لم يبالِ من حيث كسب المال ].
وهذا إنما يكون لضعف الدين وعموم الفتن، وقد أخبر عليه السلام أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنذر كثرة الفساد، وظهور المنكر، وتغير الأحوال، وذلك من علامات نبوته عليه السلام[ شرح صحيح البخاري لابن بطال، ج: 6، ص: 201 ].
والوقوع في الحرام منذر بشرٍّ كبير، وخطر عظيم؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبرَ، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟))[صحيح مسلم،باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها ]؛ أي: من أين يُستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له[ المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ج: 7، ص: 100 ].
وفي الحديث عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه))[ المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، باب كراهية طلب العلم لغير الله ]؛ أي: يُسأل عن ماله: من أين اكتسبه، أمن حرام أو حلال؟ وفيمَ أنفقه، أفي طاعة أم معصية؟[مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ج: 8، ص: 3854.].
هذا، وقد وردت نصوص كثيرة تبين صفات التاجر المسلم، وأهم ما ينبغي أن يلتزم به في تجارته؛ إذ التاجر المسلم داعية إلى دين الله بسلوكه وحسن تعامله مع الناس، فهو داعية بلسان الحال وإن لم يكن كذلك بلسان المقال، وقد ذكر بعض أهل العلم تحليلًا لكلمة "تاجر"؛ حيث قال: التاء تعني: تقوى، والألف: أمين، والجيم: جسور، والراء: رحيم، فالتاجر المسلم تقيٌّ أمين جسور رحيم[فقه التاجر المسلم، ص: 6]
ومن الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها التاجر:
الصدق والأمانة: وهما أرفع صفات التاجر المسلم، وبهما مدح النبي صلى الله عليه وسلم التجار؛ فعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء))[ سنن الترمذي، باب ما جاء في التجار، وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ]؛ أي: من تحرَّى الصدق والأمانة، كان في زمرة الأبرار من النبيين والصديقين[تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، ج: 4، ص: 335 ].
فالصدق خلق رفيع، حث الله عليه في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]؛ قال القرطبي: "فحق مَن فهِم عن الله وعقل عنه أن يلازمَ الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك، لحِق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار"[ تفسير القرطبي، ج: 8، ص: 289 ].
ومن الأمور التي ينبغي أن يصدق فيها التاجر: الصدق في وصف السلعة، وفي مقدار الربح إن أظهره للمشتري؛ فالإسلام يريد بناء المعاملات على الصدق والأمانة والنصح، وينهى عن الخداع والتغرير والتدليس؛ لما يجره من غشٍّ يترتب عليه العداوة والبغضاء، وأكل أموال الناس بالباطل[ توضيح الأحكام من بلوغ المرام، ج: 4، ص: 334 ]؛ فعن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صُبرةِ طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشَّ، فليس مني))[ صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا)) ]
والغش معناه: كتم عيب المبيع، والمراد بالعيب: كل وصف يعلم من حال آخذه أنه لو اطلع عليه لم يأخذه بذلك الثمن الذي يريد بدله فيه[دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين،ج: 8، ص: 423 ]؛ يقول الصنعاني: "والحديث دليل على تحريم الغش، وهو مجمع على تحريمه شرعًا، مذموم فاعله عقلًا"[سبل السلام، ج: 2، ص: 39 ].
ومن صور الغش: النجش؛ وهو أن يزيد الإنسان في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، بل ليوقع غيره فيها، أو يمدح المبيع بما ليس فيه ليروِّجَه، ويقع ذلك غالبًا بمواطأة مع البائع فيشتركان في الإثم، وقد يقع ذلك أحيانًا بغير علم البائع، فيأثم الناجش وحده، وبيع النجش باطل وحرام؛ لما فيه من خديعة المسلم، وأكل المال بالباطل[موسوعة الفقه الإسلامي، ج: 3، ص: 421]؛ فعن عبدالله بن عمر: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النَّجْشِ))[صحيح البخاري، باب ما يكره من التناجش ].
السماحة: ويقصد بها التيسير في المعاملة والرضا بيسير الربح وحسن الطلب[شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، ج: 3، ص: 512]، وهي من أخلاق المسلم التي عليه التحلي بها؛ فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحِمَ الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى))[ صحيح البخاري،باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع، ومن طلب حقًّا فليطلبه في عفاف ]؛ ففي هذا الحديث: الحض على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المُشاحَّة في البيع، وذلك سبب لوجود البركة فيه؛ لأن النبي عليه السلام لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة، فأما فضل ذلك في الآخرة، فقد دعا عليه السلام بالرحمة لمن فعل ذلك، فمن أحب أن تناله بركة دعوة النبي عليه السلام، فليقْتَدِ بهذا الحديث ويعمل به[ شرح صحيح البخارى لابن بطال، ج: 6، ص: 211 ].
ومن حسُنت نيته في هذا الباب، كافأه الله يوم القيامة بحسن الجزاء؛ فعن حذيفة قال: ((أُتيَ الله بعبدٍ من عباده آتاه الله مالًا، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال: ولا يكتمون الله حديثًا، قال: يا رب، آتيتني مالك، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أتيسر على الموسر، وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي، فقال عقبة بن عامر الجهني وأبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعناه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم))[ صحيح مسلم، باب فضل إنظار المعسر ]؛ففي هذا الحديث: فضل إنظار المعسر، والوضع عنه قليلًا أو كثيرًا، وفضل المسامحة في الاقتضاء من الموسر، وفيه عدم احتقار أفعال الخير، فلعله يكون سببًا للسعادة والرحمة[ شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، ج: 7، ص: 2116 ].
ومن المسامحة في البيع الإقالة، وهي فسخ العقد ورجوع كل من المتعاقدين بما كان له[ موسوعة الفقه الإسلامي، ج: 3، ص: 439 ]
بمعنى: أن يشتريَ الإنسان شيئًا ثم يظهر له عدم حاجته إليه، فيطلب الإقالة وفسخ العقد؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أقال عثرةً أقاله الله يوم القيامة))[ مسند الإمام أحمد، مسند أبي هريرة ]، وإنما كانت الإقالة مشروعة؛ "لما فيها من التيسير على الناس، وتخليصهم مما يظنون أنه ورطة يندمون على الوقوع فيها، فقد يعقد أحدهم عقدًا ثم يرى أنه مغبونٌ فيه، أو أنه ليس بحاجة إليه، فيبقى في غمٍّ وكرب، ويكون في إقالته منه تنفيسٌ لكربه وتفريج لغمِّه، وفي ذلك من الأجر ما فيه"[ الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ج: 6، ص: 47 ].
وبالتزام هاته الآداب وغيرها، ينجو التاجر من ويلات التجارة ومزالقها؛ فعن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده: ((أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: يا معشر التجار، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: إن التجار يُبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى الله وبرَّ وصدق))[ سنن الترمذي، باب ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ]؛ أي: إنه لما كان ديدن بعض التجار التدليس في المعاملات، وعدم التورع عن الأيمان الكاذبة لترويج السلع، حكم عليهم بالفجور، واستثنى منهم من اتقى المحارم وبرَّ في يمينه، وصدق في حديثه[ تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، ج: 4، ص: 336 ] ".
« الشيخ : الدخلاوي علال »