الحمدُ للهِ أولى من حُمِدَ، وأحقُّ من عُبِدَ، وأوجبُ من ذُكِرَ، وَأَجْوَدُ مَنْ سُئِلَ، وأرحمُ من قُصِدَ، وَأَرْأَفُ مَنْ مَلَكَ، وأكرمُ مَنْ أَعْطَى، وَأَنْصَرُ مَنِ ابْتُغِيَ..
سبحانهُ وبحمده، عبادتهُ شرفٌ، وذِكرهُ طُمأنِينةٌ، والتَّذلّلُ لهُ عِزٌّ، والافتِقارُ إليهِ غِنى، والاعتمَادُ عليهِ قُوةٌ، والتَّوكلُ عليهِ إيمانٌ.. وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا..
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ..
وأشهدُ أن نبيَّنَا وإمامَنا وقدوتَنا محمدُ بن عبدالله، نبيٌ اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى واجتباهُ، وطهرَ قلبهُ وزكاه، وشرحَ صدْرهُ وهداهُ، ووضعَ وزرهُ وآواهُ، ورفعَ ذِكرهُ وأعلاهُ، واعطاهُ الوسيلةَ والفضيلةَ والشفَاعةَ وأرضاهُ، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبهِ ومن والاهُ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا لا حدَّ لمُنتهاهُ..
أمَّا بعدُ: فـ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33]..
واعلموا أنَّ العُمرَ يُنقِصُهُ مُرورُ الساعاتِ، وأنَّ الصِحةَ تَعرِضُ لها الآفاتُ، وأنَّ الموت الذي تفِرُّونَ مِنهُ فإنهُ آتٍ آت .. ﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]..
معاشِرَ المؤمنينَ الكرام: العاقِلُ الحصِيفُ من وعَظَ نفسهُ، ونصَحَ لآخرتهِ فأخذَ حِذرهُ، وعمِلَ لما بعد الموت.. والعاجِزُ المتواني، من أتبعَ نفسهُ هواها، وتمنى على الله الأماني.. في الحدِيث الصحيحِ قالَ حبِيبُنا صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليه: « من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ » .. وجاء في الأثر: من خافَ الوعِيد، قَربُ عليهِ البعِيدُ، ومن طالَ أمَلهُ ضعُفُ عمَلهُ، فحاسِبوا أنفسَكم قبلَ أن تُحاسَبوا، وزنوا أنفسَكم قبلَ أن تُوزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبرِ على الله: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18].. بالذكرى يا عباد الله: تلينُ القلوبُ وتخشَع، وتنجَلي غُيومُ الغَفلةِ وتتقَشَع، من سَلك سبيلَ أهلِ السلامةِ سَلِم، ومن لم يَقبل نُصحَ الناصِحين ندِم، ومن أحسنَ الظنَّ فليُحسِن العمَل .. وإنما مَرضُ القلوبِ من الذنوب، وعلاجُها، أن نَفِرَّ إلى اللهِ ونتُوب: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 31]..
فالتّوبةُ يا عباد الله: من أعظمِ العباداتِ وأحبِّها إلى الله تعالى.. مَن اتّصفَ بها تحقَّق فلاحُه، وتأكدَ نجاحُه، وصلح حاله ومآله، قال جلَّ وعلا: ﴿ فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ [القصص: 67]..
والتَّوبةُ يا عباد الله: من أعظمِ أسبابِ الفَلاحِ والخيرِيةِ، بلْ جَاءَ في الحديثِ الصَّحِيحِ: « كُلُّ أبن آدمَ خطاءٌ، وخيرُ الخطَائِينَ التَّوابُون » .. والكُلُّ مُحتاجٌ إلى التَّوبة ومُطالبٌ بها .. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا ﴾ [التحريم: 8]، وقال جلَّ وعلا: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 31]..
وما هي التوبة يا عباد الله: التَّوبةُ انكِسارٌ وخُضوعٌ للرَّبِّ، واعترافٌ واقرارٌ بالذنبِ، وندمٌ وتألمٌ في القلبِ، مع الخوفِ والرجاءِ والحبِّ .. التَّوبةُ تذلُّلٌ واستغفار، واستعتابٌ واعتِذار .. التَّوبةُ خَوفٌ ورجاء، وخجلٌ من اللهِ وحياء، وخَشيةٌ ووجلٌ وبُكاء، وتَضرعٌ ومُناجاةٌ ودُعاءٌ .. التَّوبةُ نَدمٌ وإقلاعٌ وأَوبةٌ، نَدمٌ على ما فرَّطَ في الماضي، وإقلاعٌ فوريٌّ عن الذنوبِ والمعاصِي، وعزمٌ قويٌّ على عدمِ مُعاودتها فيما يأتي..
والتَّوبةُ ممكنةٌ في كُلِ حينٍ وآن، مُهيأةٌ لأيِّ أحدٍ كان، بابُها دَومًا مفتوح، ودخولها في كُلِّ وقتٍ مسموح، ما لم تأتي سَكرةُ الموتِ وتُغرغِرُ الروح.. تأمَّلوا يا عباد الله ما جاء في هذا الحديثِ القُدسِي الصَحِيحِ، قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: قالَ اللهُ تعالى: « يا ابن آدمَ لو بَلغت ذُنوبُك عَنانَ السَّماءِ، ثمَّ استغفَرتني لغَفرتُ لكَ ولا أُبالي ».. وجاء في حديثٍ قُدسِي آخرَ في "صحيحِ مُسلِم"، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: « قَالَ اللهُ تَعَالى: يَا عِبَادِي، إِنَّكُم تُخطِئُونَ بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاستَغفِرُوني أَغفِرْ لَكُم » .. وفي "صحيحِ مُسلمٍ" أيضًا قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَو لم تُذنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُم، وَلَجَاءَ بِقَومٍ يُذنِبُونَ فَيَستَغفِرُونَ اللهَ فَيَغفِرُ لَهُم».. وصحَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنه قال: « التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ »..
فلمَ لا نتوبُ يا عباد الله.. لمَ لا نتوبُ وإلاهُنا العظِيمُ الجلِيلُ يُنادِينا: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 31].. ويكرِّرُ النِداءَ ويُنوعُه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [التحريم: 8]..
لم لا نتوبُ يا عباد الله: ومَلِكُ الملوك جلَّ جَلاله يَنزِلُ في كُلِ ليلةٍ إلى سماءِهِ الدُّنيا نزولًا يليقُ بجلاله فينادي: «هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟..
لم لا نتوبُ يا عباد الله: وربُّنا الودُودُ اللطِيفُ، يُحبُّ التوابين ويُحبُّ الأوابين.. بل ويفرحُ بتوبتنا فرحًا عجِيبًا لا تُطِيقُ العِباراتُ وصفُه، في "صحيح مسلم": « لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ ».. لمَ لا نتوبُ يا عباد الله: وربُّنا الكريمُ الرَّحِيمُ يقول: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 39].. ويقولُ جلَّ وعلا: ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 54].. لمَ لا نتوبُ يا عباد الله: وربُّنا العفو الغفور يقول: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82].. ويقولُ سُبحانه وبحمده: ﴿ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ [القصص: 67]..
لمَ لا نتوبُ يا عباد الله: وربنُّا الحليمُ الحكيمُ يقول: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 60].. ليسَ ذلك فحسب، بل إنهُ سُبحانهُ وبحمده يقولُ: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]..
لمَ لا نتوبُ يا عباد الله: وربُّنا التوابُ الوهابُ يُبشرنا بقوله: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحجر: 49]، وينادينا: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].. ويُكرِّر النِّداء في الحديث القدسي: "يا بنَ آدمَ، إنكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كان فيك ولا أُبالي، يا بن آدم، لو بلَغَتْ ذُنوبُكَ عنانَ السماء، ثمَّ استغفرتَني غفَرْتُ لَكَ ولا أُبالي، يا بن آدَمَ، إنَّكَ لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا، لأتيتُكَ بقُرابها مَغْفِرةً"..
لم لا نتوبُ يا عباد الله: وقدوتنا وأسوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم كان يتوبُ في اليوم الواحد أكثرَ من سبعينَ مرةً، وفي رواية أكثر من مائة مرة.. والحديث في البخاري..
لم لا نتوبُ يا عباد الله: وربنا جلَّ جلاله، يبسُطُ يدَهُ بالليل ليتوبَ مُسيءُ النهارِ، ويبسُطُ يدَهُ بالنهار ليتوبَ مُسيءُ الليل»؛ والحديث في البخاري ومسلم..
لم لا نتوب يا عباد الله: والله جلَّ جلاله يُحذرنا ويُنذِرنا فيقول: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]، ويقول أيضًا سبحانه: ﴿ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [التوبة: 74]..
فيا له من ربٍّ كريمٍ وهاب، يا لهُ من خالقٍ حليمٍ رحيمٍ تواب، يتفضل علينا دومًا بمغفرته وعفوه، ويغمرنا أبدًا بحلمه وصفحه وستره، ويوالي علينا كرمهُ وجودهُ وفضلهُ، ويفتحُ لنا أبوابَ توبته ومغفرته .. يعفو ويصفح، ويتلطَّفُ ويمنح، وبتوبة عبده يفرَح، وبرحمته يقبلُ التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .. أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الزمر: 53 – 55]..
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من...
معاشر المؤمنين الكرام: لعِظمِ مَنزِلةِ التَّوبةِ عندَ اللهِ تعَالى، ولشدِّةِ أهمِيتِها للعباد، فقد يسَّرهَا اللهُ تعالى إيَّما تيسِيرٍ، ونوَّعَ السُبلَ التي تُوصِلُ إليها، ووعدَ بقبول التَّوبةِ ممَّن صَدقَ فيها، قال جلَّ وعلا عن نفسه العلية: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الشورى: 25]..
ثمَّ أدعوكم يا عباد الله لنتأمَّل هذه الأحاديثَ الصحيحةَ جيدًا: قال عليه الصلاة والسلام: « مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ ».. وفي "صحيح مسلم" قال صلى الله عليه وسلم: « من توضَّأ فأحسنَ الوُضُوءَ، خرجتْ خطاياهُ من جَسَدِه حتى تَخْرُجُ من تحتِ أظفاره ».. وفي "الصحيحين" قال صلى الله عليه وسلم: « مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ».. وفي "الصحيحين" أيضًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ ».. وجاء في حديثٍ حسنهُ الإمام الألباني أنه صلى الله عليه وسلم قال: « مَا عَلَى الْأَرْضِ رَجُلٌ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، إِلَّا كُفِّرَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ، وَلَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ ».. ومثله أيضًا قال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، تَنْفُضُ الْخَطَايَا كَمَا تَنْفُضُ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا ».. وفي صحيح أبي داود رحمه الله، قال عليه الصلاة والسلام: « مَنْ أَكَلَ طَعَامًا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ».. « وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّى وَلاَ قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »..
أرأيتم يا عباد الله: أعمالٌ سهلةٌ يسيرة، ذاتُ أجورٍ عاليةٍ كبيرة، فما رأيكم وفقكم الله، أن تعزموا على الإكثار منها، والمداومة عليها، عسى أن تفوزوا بموعودِها، فاللهُ سبحانه لا يخلفُ الميعاد..
ثم أبشروا يا عباد الله، فإنَّ العبدَ المسلم إذا جاهدَ نفسهُ على طاعة ربه، وكفَّها عن مّعصِيتهِ، ولازمَ التوبةَ والاستغفارَ وداومَ عليها، وصبرَ على ذلك ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ؛ انقادت نفسهُ لذلك شيئًا فشيئًا، حتى تألفَ الطاعة، وتتلذذَ بالعبادة، وتتذوقَ حلاوةَ الإيمان، وتأنسُ بمناجاة الرحمان، ومن ثمَّ تُصبِحُ المعاصِي والمخالفاتِ من أكرهِ الأشياءِ إليه، وأشقِّ الأمورِ عليه.. واللهُ تبارك وتعالى برحمته الواسعة وفضلهِ العظيم، إذا علمَ من عبده حُسنَ النيةِ، وصِدقَ الرغبةِ في الخير، ومحبةَ القيامِ بما أوجبَ اللهُ عليه.. أعانهُ اللهُ وسددهُ، وهيأ لهُ الأسباب، وفتحَ لهُ من خزائنِ جودهِ ما لا يخطرُ لهُ على بال..
إيّ واللهِ يا عبادَ الله، وإن أردتم دليلًا فتأملوا هذا الكرم الإلهي العجيب، في قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحجرات: 7 ، 8]..
ثم تأمَّلوا هذا السياق القرآني الكريم، قال تبارك وتعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 26 - 28]..
أَلا فَمَا أَحرَانَا يا عباد الله: أَن نَتَّقِيَ اللهَ، وَأن نَعُودَ إِلى رُشدِنَا، وَأن لا نَتَمَادَى في الخَطَأِ وأن لا نُصِرَّ على الذنوب، وأَن نجدِّدَ التوبةَ ونجتهدَ فيها بصدقٍ وإخلاص.. ولنُبشِر بالقبول، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيهِم وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 17]..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.. اللهم صل وسلم على نبينا محمد.