مع خلق عظيم وعمل جليل من أعمال البر والخير، مع خلق من أخلاق المقربين، وسمة من سمات العابدين، وخصلة من خصال الفائزين. فيه خير للعباد، ومنفعة للبلاد، سبيل إلى تماسك المجتمع، وتقدم الأمم، به تقبل الأعمال وتحسن الأحوال. إنه خلقُ الإحسان.
مفهوم الإحسان ومعناه:
الإحسان بكل بساطة هو الإتقان.
والإحسان الإتيان بالمطلوب شرعا على وجه حسن.
والإحسان بذل المعروف لعباد الله من قول أو فعل أو مال أو جاه.
والإحسان ضد الإساءة، وهو فعل ما هو حسن وجميل، وترك ما هو سيء وقبيح.
وحقيقة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأن تبذل ما تستطيعه من النفع والخير للبلاد والعباد.
مكانة الإحسان وفضله:
مقام الإحسان مقام رفيع؛ فهو غاية مراد الطالبين، ومنتهى قصد السالكين؛ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الإحسان خلق جميل؛ هو دليل على النبل، واعتراف بالفضل، وعرفان للجميل، وقيام بالواجب، واحترام للمنعم. ينبئ عن الصفاء، وينطق بالوفاء، ويترجم عن السخاء؛ بالإحسان يشُترى الحب، ويُخطب الودّ، وتكسب النفوس، ويُهيمن على القلوب، وتستعبد الأفئدة. الإحسان عطاء بلا حدود، وبذل بلا تردد، وإنعام دونما منّ، وإكرام لا يلحقه أذى.
فالمحسن لا يؤذي أحدا، فإن آذاه أحد عفا وصبر وصفح وغفر، وإذا عامل الناس عاملهم بالفضل والإحسان، فيعطيهم وإن منعوه، ويَصِلهم وإن قطعوه، ويمنّ عليهم وإن حرَموه، وإنما كان كذلك لأنه كان بالله غنياً، وبه راضياً، ومنه قريباً، ولديه حبيباً.
فمَن أحسن مع الله أحسن مع الناس، ووجد في قلبه سهولة الإحسان إليهم، كما قال تعالى: ﴿ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34،35].
الإحسان صفة من صفات الله عز وجل؛
فهو سبحانه المحسنُ في خلقه، المحسن إلى مخلوقاته. بيده الخير كله، وله ينسب الفضل كله، هو الذي خلق الخلق فأحسنه وجمّله وأبدعه على غير مثال سابق؛ قال سبحانه وتعالى عن نفسه: ﴿ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 6 - 9]. وقال سبحانه: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 64]. وقال سبحانه: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [الملك: 3، 4]. وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 12 - 14]. وقال سبحانه: ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾[النمل: 88].
وهو سبحانه المحسن المنعم على عباده؛ فقد أنعم سبحانه على العباد وأحسن إليهم بنعم لا تعد ولا تحصى، ومن أعظم أنواع الإحسان والبر أن يحسن سبحانه إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عذر من اعتذر إليه. ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الشورى: 25].
فأيُّ إحسان إلا إحسانه، وأي إنعام إلا إنعامه، وأي كرم إلا كرمه، وأي جود إلا جوده، وأي فضل إلا فضله، وأي لطف إلا لطفه، وأي عطاء إلا عطاؤه، وأي بِرٍّ إلا بره... ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾. ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾.
خَلقَ الإنسانَ في أحسن تقويم وصوّره فأحسن صورته، وامتدّ إليه إحسانُه وهو نطفة في ظلمات ثلاث، وعَمَّه بإحسانه طفلاً، وأنبته نباتاً حسناً، ورباه بنعمه وأحسن مثواه، وأحسن إليه شاباً يافعاً وعاقلاً راشداً، وشيخاً مسناً، ووصى الإنسان بوالديه إحساناً، وأمره الله تعالى بالإحسان مع كل شيء وإلى كل شيء، وفي كل شيء، ورتب عليه عظيم الأجر، وبديع القدر، ووافر الإكرام.
وقد ندب الله المحسنُ الكريم عباده إلى هذه الشيم الفاضلة، والأفعال الحميدة، وهو أولى بها منهم وأحق.
دعاك إلى الإحسان لأنه أحسن إليك، فقال سبحانه: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77].
فالأوْلَى أن يقابَل الإحسانُ بالإحسان رغم أن البون شاسع، والفرق كبير بين إحسان وإحسان، فماذا يساوي إحسان المخلوق إلى جانب إحسان الخالق؟ بل إن إحسان المخلوق ما هو إلا من إحسان الخالق إليه ولطفه به أن هداه لذاك، فهو المحسن الغفور الودود.
إلهي إذا ما عشتُ في الأرض محسناً فليس بفيض من ذكائي ولا فضلي فأنت الذي يسرتني وهديتني إلى الخير والإحسان يا واسع البذل |
الإحسان من أفضل منازل العبودية؛ بل هو حقيقتها ولبها وروحها وأساسها، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه "مدارج السالكين": (منزلة الإحسان هي لب الإيمان وروحه وكماله).
فهو لب الإيمان، وروح الإسلام، وكمال الشريعة، وهو يدخل في سائر الأقوال والأفعال والأحوال، وأعظم درجات الإحسانِ: الإحسانُ مع الله جل وعلا، ثم إحسان المرء مع نفسه وأهله وسائر المخلوقات، حتى يشمل البهائم والعجماوات، ففي صحيح مسلم عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: « إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ».
فهل من المعقول لمن يحسن في الذبح ألا يحسن في الحياة؟. حقا إنه مثال لا يخطر على البال.
فأنت مأمور بالإحسان في كل صغيرة وفي كل كبيرة؛ في كل قول وفي كل فعل، في كل أخذ وفي كل عطاء.
أنت مأمور بالإحسان في فعل الواجبات؛ بأن تؤدِّيَها على وجه الكمال في واجباتها، وتجتهدَ في مستحبّاتها.
وأنت مأمور بالإحسان في ترك المحرّمات، بالانتهاء عن ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: ﴿ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾ [الأنعام:120].
وأنت مأمور بالإحسان في معاملتك لكلِّ مخلوق؛ من إنسان أو حيوان...
وقد أمر الله تعالى بالإحسان أمرًا مطلقًا عامًّا، فقال تعالى: ﴿ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة:195]، وقال عزّ وجلّ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل:90].
فيا عبد الله أما آن لك أن تحسن كما أحسن الله إليك؟.
عليك أن تحسن في كل شيء في حياتك، وليكن شعارك: "وأحسن كما أحسن الله إليك"..
أن تحسن في عبادتك، أن تحسن في معاملتك، وأن تحسن إلى من هو في حاجة إلى إحسانك.
صور لخُلق الإحسان؛
1) الإحسان في العبادة:
أعظم شيء على المسلم أن يحسنه ويتقنه: عبادتُه لربه. أن يأتي بها على الوجه المشروع دون زيادة ولا نقصان. أن يتقن صلاته وزكاته وحجه وصيامه، أن يحسن في كل قول أو عمل يتقرب به إلى ربه سبحانه.
والطريق إلى ذلك هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه عن سؤال جبريل عليه السلام، حين سأله: مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
"أن تعبد الله كأنك تراه" أن تحسن عملك الذي أمرك به ربك سبحانه، كأنك تراه وهو ينظر إليك؛ فتكون حاضر الذهن، فارغَ النفس، مستجمع القلب، كما لو كنت تشاهد ربك سبحانه، فتستحضر عظمته، وجلاله، وكماله، وجماله. وتستحضر أنك في حاجة إلى رحمته ومغفرته ورضوانه.
"فإن لم تكن تراه فإنه يراك" أي فإن لم تستطع أن تبلغ بعبادتك إلى مستوى مَن يعبد الله كأنه يراه؛ فاعبد الله وأنت على يقين أنه مطلع عليك ناظر إليك، فاستحضر مراقبة ربك في كل ما تقول وتعمل، وتذَكّرْ دائما أنه يراك.
نعم إنه يراك.. يراك ويعلم سرك ونجواك.. في الصحراء يراك.. في الجو أو في البحر يراك.. إن كنت وحيداً يراك.. إن كنت في جمعٍ يراك.. ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4].. ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].
أخرج الطبراني والبيهقي عن زيد بن أسلم قال: مرَّ ابن عمر براعي غنم فقال: يا راعي الغنم! هل من جَزَرة - أي من شاة تصلح للذبح -؟ قال الراعي: ليس ههنا ربُّها، فقال ابن عمر: تقول: أكلها الذئب! فرفع الراعي رأسه إلى السماء ثم قال: فأين الله؟! قال ابن عمر: فأنا والله أحق أن أقول أين الله؟ فاشترى ابن عمر الراعي واشترى الغنم فأعتقه وأعطاه الغنم.
الإحسان في العبادة؛ أن تؤديها كما أمرك الله وكما بينها لك رسول الله، أن تجعلها خالصة لوجه الله، أن تؤديها تامة كاملة بأركانها وواجباتها وسننها ومستحباتها، أن تؤديها في أوقاتها إن كان لها وقت محدد، أن تجعلها عبادة تطهر بها قلبك وتزكي بها نفسك، وتغير بها سلوكك وتنَمِّي بها أخلاقك. فمَن لم يتغير سلوكُه ولم تتحَسّن أخلاقُه بعبادته فليعلم أن عبادته ناقصة، فقد قال سبحانه عن الصلاة: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]. وقال عن الصدقة والزكاة: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103]. وقال عن الحج: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197]. وقال نبينا صلى الله عليه وسلم عن الصوم: "إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ...".
فللعبادة الصحيحة أثر على الأخلاق وأثر على السلوك وأثر على المعاملة.
والعبادة لا تخضع للأهواء ولا للآراء ولا لشهوة النفس ونزواتها؛ بل هي ما شرعه الله وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فواجب على العبد أن يتحرى الصواب فيها، وأن يسأل أهل الذكر فيما لا يعلم.
ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّلاَمَ، قَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ». فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ». ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ». حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا عَلِّمْنِي. قَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا».
وفي صحيح مسلم عَنْ عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاَةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا، إِلاَّ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ». وقِسْ على ذلك باقي العبادات في وجوب إتقانها والإحسان فيها.
فليعمل العبد من العمل ما يغلب على ظنه أنه سَيسُرّه ويفرح به عند لقاء ربه؛ فقد قال سبحانه: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105].
2) الإحسان في القول والعمل؛
مرة أخرى مع خلق الإحسان والإِتقَان؛ ذلكم الخلق العظيم الذي أوجبه رب العالمين، وأمر به سيد المرسلين. فما من قول أو عمل يقوم به المسلم إلا ويجب عليه أن يحسنه ويتقنه، سواء كان ذلك في العبادات والطاعات، أو في أمور الحياة. لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء". إذ ما من أمر في حياة العباد إلا ولله فيه حكم وشرع. قال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
فالإحسان واجب في كل شيء؛ في الأقوال والأفعال والأخلاق، والمعاملات... والفساد منهي عنه في كل شيء. قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
الإحسان في القول:
فمما أمر الله سبحانه بالإحسان فيه: القولُ، فما من كلام إلا وينبغي أن يكون طيبا حسنا مفيدا. قال سبحانه: ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء: 53] وقال عز وجل: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾. فواجب على المسلم أن يُعوّد لسانه على الكلام الطيب والقول الحسن، أن يستعمله فيما ينفعه في دنياه وفي أخراه. وأن يمسكه عن كل قول سيئ وقبيح. فقد قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». متفق عليه من حديث أبي هريرة.
ومن القول الذي أمر الله سبحانه بالإحسان فيه: ردّ المسلم للتحية على إخوانه، فقد قال عز وجل: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ﴾ [النساء: 86]. وأحسن التحية تحية الإسلام، وهي السلام، والإحسان فيها ردّها تامة كاملة مسموعة.
ومن القول الذي أمر الله سبحانه بالإحسان فيه: الدعوة والحوار والجدال، فقد قال سبحانه، ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ وقال عز وجل: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾.
الإحسان في العمل:
ومما أمر الله سبحانه بالإحسان فيه: العمل؛ سواء كان في أمور الدين أو في أمور الحياة. قال سبحانه: ﴿ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾. وقد تحدثنا في الجمعة الماضية عن واجب الإتقان في العبادات، فلنتحدث اليوم عن واجب الإتقان في العمل.
فالإسلام يَدعو إلى إتقان العمل وزِيادة الإنتاج، ويعدُّ ذلك أمانة ومسؤوليَّة، فليس المطلوب في الإسلام مجرَّدَ القيام بالعمل، بل لا بُدَّ من الإحسان والإجادة فيه وأدائه بمهارة وإحكام.
وكم في القرآن الكريم من آيات اقترن فيها الإيمان بالعمل، فما تكاد تجد آية فيها دعوة إلى الإيمان وبيانٌ لقيمته ومكانته، إلا ويأتي بعد ذلك ذكرُ العمل الصالح وأهميتِه وثمرتِه، وفي ذلك دلالة واضحة على أثر الإيمان في توجيه الأعمال نحو الصلاح والخيرية والنفع والإتقان، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾. وقال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾...
ذلك أن الإيمان يربي الضمائر، ويهذب الأفعال، ويغرس في قلب المسلم عقيدة الخوف من الله ومراقبته، فيعتقد أنه ما من عمل يقوم به إلا وهو محاسب عليه، أو مجزيٌ به عند الله الذي لا يعزب عن علمه وقدرته وسلطانه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يَضيع عنده سبحانه عملُ عامل مهما قل أو كثر، قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَال حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
ونبينا صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الله عز وجل يحب من عباده أن يتقنوا أعمالهم ويحسنوها، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ». أخرجه الطبراني والبيهقي.
وممَّا يُعِين على إتقان العمل وإحسانه:
1- استشعار العبد لمراقبة الله عز وجل؛
أن يعلم العبد أن الله عز وجل معه، رقيب عليه، مطلع عليه في كل زمان وفي كل مكان.
قال سبحانه: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾. وقال عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7].
فمَن علم علمَ يقين أنّ الله عزّ وجلّ ناظر إليه مطّلع على عمله؛ هل يجدر به بعد ذلك أن يضيع عمله، أن يفرط فيما يجب عليه؟ أم هل هو في حاجة إلى من يراقبه من البشر؟ ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾.
2- تذكر العبد ليوم الحساب؛
فمن أيقن بالحساب، والوقوف بين يدي ربه سبحانه فليحسن في عمله، ليسعد به عند لقاء ربه.
قال سبحانه: ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا * وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ [الإسراء: 12 - 15]. وقال عز وجل: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
3- العلم بأن العمل أمانة ومسؤولية؛
فواجب على المسلم أن يحافظ على أمانته التي تحملها، وأن يؤدي واجبه الذي أنيط به، بحسن رعايته لعمله، وتطويره، والإسراع في إنجازه، وبذْل الوسع والطاقة في اجتِناب الوقوع في الأخطاء في أداء العمل وإنتاجه، وألاَّ يفرِّق بين عمله في قطاع حكومي أو مؤسَّسة خاصَّة وعمله لخاصَّة نفسه، فهو مُطالَب بإتقان العمل وإجادته وإحسانه سواء كان له أو لغيره.
وهذا يحتّم على المرء أنْ يختار العمل الذي يُناسِبه ويستطيع أداءَه بكفاءة ومقدرة، فمن غير المناسب أنْ يختار عملاً لم يُؤَهَّل له ولا يستطيع أداءَه.
روى مُسلِم في صَحِيحِه عَن أَبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلا تَستَعمِلُني؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنكِبِي، ثم قَالَ: « يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا». فواجب على المسلم أن يأخذ أمانته بحقها، وأن يؤدي الذي يجب عليه فيها.
4- الإخلاص في العمل، وعدم التهاوُن فيه، وعدم الاستهانة به؛
فلا يمكن القِيام بالعمل على أكمل وجهٍ وأحسنه إلاَّ إذا تحقَّق فيه الإخلاص من العامل نفسه؛ فالإخلاص هو الباعث الذي يحفِّز العامل على إتقان العمل، ويدفعه إلى إجادَتِه، ويُعِينه على تحمُّل المتاعب فيه، وبذْل كثيرٍ من الجهد في إنجازه، وتفادي وقوع الأخطاء فيه، فهو بمثابة صمام الأمان ضدَّ الفساد بكلِّ صوره وأشكاله.
5- التعاون في أداء العمل وإنجازه؛
فالتعاون بين عموم المسلمين على البر والتقوى خلقٌ رفيع دعا إليه الإسلام ورَغَّب فيه؛ حيث قال ربنا عزَّ وجلَّ: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾، ويقول نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
ومن صُوَرِ هذا التعاون: تعاونُ العاملين فيما بينهم في أداء العمل فيما يُحَقِّق النفع والخير للعامِلين، ويُفعِّل أنظمةَ العمل وقوانينه، ويحقِّق الفائدة والتطوير لهذا العمل.
6- اجتناب الغش والخداع؛
وممَّا يُعِين على إتقان العمل وإحسانه: أن يجتنب المسلم كل شيء يؤدي إلى الغش والمكر والخديعة.
فلا غش ولا خداع، ولا إهمال ولا تقصير؛ لأن العمل في الإسلام عبادة، وهو مسؤولية وأمانة، وقد حذر المولى سبحانه وتعالى من خيانة الأمانة، فقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27]. كما توعّد سبحانه من يغش الناس أشد الوعيد، فقال عز وجل: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 1 - 6].
وفي صحيح مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولاً يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» - أي خيانة وسرقة - قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الأَنْصَارِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ. قَالَ: «وَمَا لَكَ؟» قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: «وَأَنَا أَقُولُهُ الآنَ: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى».
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ - أي كومة مجموعة من الطعام بلا كيل ولا وزن - فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟». قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَاهُ، إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ، فَأَخَذَهَا، وَلَمْ يُعْطَ بِهَا».
عباد الله؛ الحَدِيثُ عَنِ أَدَاءِ الأَمَانَاتِ وَالوَفَاءِ بِالمَسؤُولِيَّاتِ، وَإِتقَانِ الأَعمَالِ وَإِنجَازِ المهمَّاتِ، حَدِيثٌ مُتَشَعِّبٌ ذُو شُجُونٍ، غَيرَ أَنَّه مِنَ العَجِيبِ الغَرِيبِ حَقًّا وَخَاصَّةً في هَذَا الزَّمَانِ بَل وَفي بِلادِ الإِسلامِ، أَن ترى أَقوَاما مِنَ المُسلِمِينَ يُخرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيدِيهِم، وَيَنخُرُونَ في سَدِّ أبواب الخَيرَاتِ وَالبَرَكَاتِ الَّتِي أُنزِلَت عَلَيهِم، وَذَلِكَ بِابتِعَادِهِم عَنِ الصِّدقِ وَالإِخلاصِ، وَتَركِهِمُ التَّجوِيدَ وَالإِتقَانَ، وَتَطفِيفِهِم في الكَيلِ لِغَيرِهِم وَنَقصِهِمُ المِيزَانَ، وَاتِّصَافِ فِئَامٍ مِنهُم بِالكَسَلِ وَالخُمُولِ وَشِدَّةِ الإِهمَالِ لِلأَعمَالِ، هَذَا عَدَا مَا انتَشَرَ مِن خَرقٍ لِسِترِ العِفَّةِ وَالسَّلامَةِ وَالنَّزَاهَةِ، وَتَسَاهُلٍ بِالغِيَابِ وَاختِزَالٍ لِسَاعَاتِ العَمَلِ، بَل وَتَطَلّعٍ لأَخذِ المَالِ مِن غَيرِ حَقِّهِ المَشرُوعِ، بالنهب والسلب وَاختِلاسِ المستَحَقَّاتِ، وَالتَّزوِيرِ وَالتَّحوِيرِ وَالتَّغيِيرِ. وَإِنَّ النَّاظِرَ المتَأَمِّلَ فِيمَا حَولَهُ، ليَخشَى أَن يَكُونَ النَّاسُ قَد وَصَلُوا إِلى ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المالَ، أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله، فَمَا مِنكُمُ اليَومَ أَحَدٌ إِلاَّ وَهُوَ عَلَى ثَغرٍ وَبِيَدِهِ عَمَلٌ، فَلْيَتَّقِ اللهَ فِيمَا هُوَ مُؤتَمَنٌ عَلَيهِ، وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ، وليطلب العون والتوفيق من ربه سبحانه على ذلك.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لصالح الأعمال والأقوال، وأن يجنبنا سيئ الأعمال والأقوال.
3) الإحسان إلى الخلق؛
ما أجملَ الإحسان وما أجمل أهله؛ فالإحسان كالمسك ينفع حامله وبائعه ومشتريه. والمحسن محبوب عند الله، ومحبوب عند عباد الله.
إخوتي الكرام؛ من أنواع الإحسان: الإحسان إلى العباد؛ بحسن الخلق، وصدق التعامل، وبذل النصيحة، وتفريج الكربة، وإعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، والتصدق على المحتاج، وإرشاد التائه، وتعليم الجاهل، والتيسير على المعسر، والإصلاح بين الناس... إلى غير ذلك من أخلاق الإسلام الرفيعة، وآدابه العظيمة.
فإنّ مِن أجلّ نعم الله تعالى على العبد: أن يوَفقَ مع القيام بحق الله تعالى إلى القيام بحقوق عباد الله، من الإحسان إليهم، والسعي في مصالحهم، وبذل المعروف لهم...
فلقد أنعم الله على أناس فاختصهم بقضاء حوائج عباده، والسعي في مصالحهم، جعلهم مفاتيح للخير، مغاليق للشر. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «إن لله أقواما يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم». أخرجه الطبراني والبيهقي، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فيا عبد الله؛ إذا هيأ الله لك أسباب الخير، وأقدرك الله على نفع إخوانك بمالك أو بجاهك أو ببدنك أو بكلمتك أو بما تستطيعه، فلا تتردد، كن محسنا لتحمد في الدنيا والآخرة، وما أجمل أن يبقى لك في الناس ذكر حسن حتى بعد موتك. قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84] أي ثناء وذكرا حسنا فيمن يأتي بعدي إلى يوم القيامة.
كن محسنا، فإنك اليوم قادر وغداً عاجز، وأنت اليوم قوي وغداً ضعيف، فما دمت ذا مقدرة، وما دمت على استطاعة في نفع العباد فأحسن إليهم.
إِذَا كُنْتَ فِي أَمْرٍ فَكُنْ فِيهِ مُحْسِنًا فَعَمَّا قَلِيلٍ أَنْتَ مَاضٍ وَتَارِكُهْ فَكَمْ دَحَتِ الأَيَّامُ أَرْبَابَ دَوْلَةٍ وَقَدْ مَلكَتْ أَضْعَافَ مَا أَنْتَ مَالِكُهْ |
أحسن إلى والديك: ببرهما وطاعتهما في المعروف، بإيصال الخير إليهما، وكف الأذى عنهما. بالدعاء والاستغفار لهما في حياتهما وبعد موتهما. أحسن إليهما في نظرة العين، ونبرة الصوت وابتسامة الوجه... احفَظ فيهما وصية ربك سبحانه: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ [العنكبوت: 8].
روى مسلم في صحيحه عن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ. قَالَ: «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟». قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاَهُمَا. قَالَ: «فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ؟». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا».
أحسن إلى الأقارب، والأصحاب، إلى الجار والمحتاج... قال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 36، 37].
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ».
أحسن إلى أقاربك: ببرّهم، وصلتهم، ورحمتهم، والعطف عليهم، وفعل ما يحمد فعله معهم، وترك ما يسيء إليهم...
أحسن إلى الجار: باحترامه وتوقيره، ببذل الخير له، وكف الأذى عنه...
أحسن إلى أصحابك: بحبهم ونصحهم، والأخذ بأيدهم إلى كل خير، ومنعهم من كل شر...
أحسن إلى الخادم: بصون كرامته، واحترام شخصيته. بإعطائه أجره قبل أن يجف عرقه، وعدم إلزامه ما لا يلزمه، وعدم تكليفه ما لا يطيق...
أحسن إلى اليتامى: بالمحافظة على أموالهم، وحماية حقوقهم، وتربيتهم وتأديبهم، والتبسم في وجوههم، والإنفاق عليهم... روى البخاري في صحيحه عن سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا» وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى.
أحسن إلى المساكين: بسدّ جوعتهم، وستر عورتهم، والحث على إطعامهم، وعدم المساس بكرامتهم...
ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ».
أحسن إلى ابن السبيل: بقضاء حاجته، وصيانة كرامته، وإرشاده إن استرشد، وهدايته إن ضل...
أحسن إلى المحتاج: بإدخال السرور عليه، بسد حاجته، وتنفيس كربته...
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ..».
في ذلك اليوم العظيم؛ في يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر، ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ﴾ [الحج: 2]، ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 36]، يوم تعظم الحسرة، ويعظم الخوف، ويزداد الجزع، ويتطاول الهم، ويشتد الكرب، هنالك يُفَرَّج الهم، وينفّسُ الكرب، لمن كان يُفرِّج هموم المسلمين، وينفس كربات المكروبين.
أحسن إلى الناس كلهم: بحسن معاملتهم، بالوفاء والصّدق والعدل، بأمرهم بالمعروف إن تركوه، ونهيهم عن المنكر إن فعلوه، بإرشاد ضالهم، وتعليم جاهلهم، والاعتراف بحقوقهم، بعدم ارتكاب ما يضرهم، أو فعل ما يؤذيهم. عامِلهم بما تحبّ أن يعاملوك به.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ أيّ الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا. ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليّ مِن أن أعتكف في هذا المسجد - يعني مسجد المدينة - شهرا، ومَن كفّ غضبَه سَتر الله عورته، ومَن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام ». أخرجه الطبراني في معجمه، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». رواه الترمذي.
أحسن حتى ولو أساء الناس إليك؛ فمن أساء إليك من الناس فقابل إساءته بالإحسان إليه. مَن قطعك فصِلْهُ.. ومن ظلمك فاعفُ عنه.. ومن حرَمك فامنحه.. ومن هجرك فبادره بالسلام...
ولا يستوي عند الله ولا عند الخلق فعلُ الحسنات والطاعات التي يحبها الله، وفعل السيئات والمعاصي التي يُبغِضها الله، كما لا يستوي الإحسان إلى الخلق ولا الإساءة إليهم.
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].
أخي الكريم؛ تعرّفْ إلى الله في الرخاء يَعْرفك في الشدة.. واعلم أنّ الإحسان إلى الخلق سيعود إليك صداه ولو بعد حين.. وأن الصدقة ولو بالقليل تفعل الشيء الكثير إذا وافقت إخلاصًا من المتصدِّق وحاجة عند الفقير، فالبحثُ عن صاحب الحاجة اليوم عسير، إذ اختلط الحابل بالنابل، وأفسد الكاذبُ على الصادق. فينبغي للمتصدّق أن يتحرّى في صدقته المحتاجين دون المحتالين.
فوائد الإحسان ونتائجه؛
إخوتي الكرام؛ الإحسان خلق عظيم، فوائده كثيرة، ونتائجه جليلة.
فالإحسان طريق إلى رحمة الله؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56].
الإحسان طريق إلى محبة الله؛ قال سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].
الإحسان سبب في نيل العلم والفقه في الدين؛ فقد قال سبحانه: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 22].
الإحسان سبب في إحسان الله تعالى إلى عبده؛ قال سبحانه: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]. فمَن أحسنَ عمله أحسن الله جزاءه. ومن أحسن إلى العباد أحسن إليه رب العباد..
فأول المستفيدين من الإحسان هم المحسنون أنفسهم، إليهم يعود نفعه في العاجل والآجل. قال سبحانه: ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ [الإسراء: 7].
فلا تبخل على نفسك يا عبد الله؛، وقدّم لها ما يسرّك. واعلم أن السفر طويل، والزاد قليل، والذنب عظيم، والعذاب شديد، والميزان دقيق، والصراط منصوب على متن جهنم، ونحن سائرون عليه، فإمّا ناج أو هالك، فأنفق ينفقِ الله عليك، وأحسن يحسنِ الله إليك، فرج يفرج الله عنك، فالجزاء من جنس العمل.
فأحسِنْ يا عبد الله؛ فإن الإحسان سبب في صلاح الذرية؛ قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: 84].
أحسن فإن الإحسان طريق إلى عظيم الأجر وجزيل الثواب؛ قال سبحانه: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]. ﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [هود: 115]. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾ [الكهف: 30].
أحسن فإن الله مع المحسنين؛ قال عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].
أحسن فإن الإحسان سبيل إلى زيادة الفضل والخير والإكرام من الرحيم الرحمان؛ قال سبحانه: ﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
أحسن فإن الإحسان طريق إلى رِضَا الرحمان؛ قال سبحانه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [التوبة: 100].
أحسن فإن الإحسان طريق إلى الجنة؛ قال سبحانه: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]. وقال عز وجل: ﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 85].
عباد الله، مَن أتعبَ نفسه في أول الطريق جاءته الراحة في آخره، ومن أدلج في الليل في وقت الطمأنينة والهدوء واعتدال الجو أراح جسمه في وقت الشمس والحر والضنك في النهار. ومن أصلح قلبه وأكثر من عبادة ربه في حال شبابه وصحته وفقه الله وكتب له ذلك في مرضه وتعبه، ففي صحيح البخاري عن أَبي مُوسَى الأشعري قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا».
فأصلحوا قلوبكم، وأرُوا الله من أنفسكم خيرًا، واحمِلوا أنفسكم على طاعة الله ما دمتم في زمن المهلة، فإن العمر قصير والدنيا زائلة، وإنكم موقوفون بين يدي الله، ومسئولون عن أعمالكم، ومَجْزيّون عليها، الحسنة بعشر أمثالها أو يتفضل الله عليكم بالزيادة، والسيئة بمثلها أو يتفضل الله سبحانه بالعفو، فيا خسارةَ مَن باع أخراه بدنياه، ويا حسرة مَن وجد صُحف أعماله ليس فيها عمل صالح، ووجد عمله السيئ مكتوبًا بين يديه لم يُترك منه شيء، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا .
فاللهم اجعلنا من المحسنين، واكتب لنا أجر المحسنين، وجازنا بجزاء المحسنين. واجعلنا يا رب من عبادك الصالحين..
هذا؛ وصلوا وسلموا على من أمركم الله عز وجل بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صل على سيدنا محمد في الأولين، وصل على سيدنا محمد في الآخرين، وصل على سيدنا محمد في الملإ الأعلى إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا يا رب العالمين.
وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن باقي الصحابة أجمعين.
اللهم يمِّن كتابنا، ويسِّر حسابنا، وثقِّل موازيننا، وحقِّق إيماننا، وثبِّت على الصراط أقدامنا، وأقرّ برؤيتك يوم القيامة عيوننا، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقاك. اللهم لا تجعل بيننا وبينك في رزقنا أحدًا سواك، واجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك. اللهم هب لنا غنى لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأغننا اللهم عمّن أغنيته عنا، إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا يا رب العالمين.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.