الخطبة الأولى
الحمدُ لله العليم القدير؛ ﴿ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ [الزمر: 5]، نَحمَده على نِعَمه وآلائه، ونَشكُره على إنْعامِه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له؛ عظيمٌ في رُبوبيته وأُلوهيته وأسمائِه وصِفاته، قدير بخَلْقه وأفعاله؛ ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين ﴾ [الأعراف: 54].
وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه؛ حذَّر أمَّته مِن الغرور بالدُّنيا، وبيَّن لهم سُرعةَ مرورها، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما لي وللدنيا! ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها))، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابِه وأتْباعه إلى يومِ الدِّين.
أما بعد:
فاتَّقوا الله تعالى وأطيعوه، واعتبِروا بما مضَى مِن الزمان لما بقِي مِنَ الأيام، وتفكَّروا فيما انقضَى مِن أعماركم للتزوُّدِ فيما بقي منها لما أمامَكم؛ فإنَّ هولَ المطلع شديد، وإنَّ الحساب عسير، ومَن نُوقِش الحساب عُذِّب؛ ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].
أيها الناس:
يخاف كثيرٌ مِن الناس الموت وهم في غفلةٍ عنه، ويَخْشَون يومَ الحساب وهم لا يَعدُّون له، ويؤمنون بالجَنَّة ونعيمها ولا يعملون بعملِ أهلها، ويُوقنون بالنار وعذاب أهلِها ولا يأتون أسبابَ النجاة منها، وتَمضي السِّنون وراءَ السِّنين وهم يُسوِّفون في التوبة، ويَعِدُون أنفسهم بالمزيد من العملِ الصالح، ولكن بعدَ حين إلى أنْ تَنتهي آجالُهم ولم يأتِ الحينُ الذي وَعَدوا أنفسهم به.
إنَّ كلَّ عام يمضي يَنبغي ألاَّ يَمضي على المؤمِن دون محاسبةٍ واعتبارٍ؛ فإنَّه يقرب الآخِرة، ويُبعد الدنيا ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44].
إنَّ الناس إذا حَلَّ بهم أمرٌ مخوف كثُر التنادي بينهم لطلبِ النَّجاة، ودفْع المكاره، ويوم القيامة هو يومُ الخوف الأكبر؛ ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 2]؛ ولذا يكثُر فيه التنادي بيْن الناس، حتى كان مِن أسمائه (يوم التناد)، قال مؤمِن آل فرعون في نصيحته ودعوته لهم بالإيمان: ﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾ [غافر: 32 - 33].
سُمِّي يومَ التناد لأنَّ الخَلْق يتنادون يومئذ: فمِن مُستشفِع ومِن مُتضرِّع، ومن مسلِّم ومهنِّئ، ومن موبِّخ ومِن معتَذِر، ومِن آمِر ومِن مُعلِن بالطاعة، فالتنادي واقعٌ في صور شتَّى، وتسميته "يوم التناد" تُلقي عليه ظلَّ التصايح وتناوح الأصوات مِن هنا ومِن هناك، وتدلُّ على أنَّه يوم زِحام وخِصام، نسأل الله تعالى أن يُخفِّف عنَّا وعن المسلمين.
والنِّداء في ذلك اليومِ العظيم يصدُر مِن الله - تعالى - ومِن الملائكة - عليهم السلام - ومِن الناس مؤمنين وكفَّار، فكان حقيقًا أن يُسمَّى يومَ التناد.
يَبتدئ ذلك اليوم العظيم بنِداء إسرافيل - عليه السلام - للخَلْق حين يَنفُخ في الصور، فيخرجون مِن قبورهم للحشْرِ والحساب؛ ﴿ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ﴾ [ق: 41 - 42].
ويُنادَى على الناس في المحشَر بأنْ يتَّبع كلُّ عابد معبودَه؛ كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان يومُ القيامة أذَّن مؤذِّن: ليتبع كلُّ أمَّة ما كانتْ تعبُد، فلا يبقَى أحدٌ كان يعبد غيرَ الله - سبحانه - من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار))؛ رواه مسلم، ولا ينجو عقبَ ذلك النداء إلا مَن كان يعبُد الله - تعالى - لا يُشرك به شيئًا.
ويُنادَى في الأمم لتُحاكَم أعمالُ أفرادها إلى دِينها المحكم، وكتابها المنزل، وليُنظر في سجلاَّت أعمالهم؛ هل وافقتْه أم خالفتْه؛ ﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 71 - 72]، وفي آية أخرى: ﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 28 - 29].
وفي ذلك اليوم العظيم يُنادي الله - تعالى - المشركين ليسألَهم عنِ الشهادتين: شهادة توحيده، وقدْ أشْرَكوا معه غيره؛ ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [القصص: 62]، وشهادة تصديق الرُّسل واتِّباعهم، وهم قدْ كذَّبوهم وعارضوهم؛ ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65].
فتضمَّن هذانِ النِّداءانِ الربَّانيَّانِ السؤالَ عن الشهادتين اللَّتين لا يكون الإنسان مؤمنًا إلا بتحقيقهما، وهما شهادةُ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله.
ولأنَّه لا حُجَّة للمشركين في شِرْكِهم، فإنَّهم يتبرَّؤون من شركائِهم حين يُنادى عليهم، فلا ينفعهم يومئذٍ تبرُّؤهم، ولا محيص لهم؛ ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ﴾ [فصلت: 47 - 48].
وإذا كان نداءُ الله تعالى للمشركين نداءَ تخويف وتهديد ووعيد، فإنَّ للمؤمنين نداءً آخر جزاءَ إيمانِهم وعملِهم الصالح، نداء تهنئة وتكريم، وتوقير وتبشير؛ ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43]، فما أعظمَه مِن نداء! وما أجملَ طَرْقَه للأسماع! ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43].
نِداء بفوزٍ أبديٍّ في نعيمِ الجنة، والقُرْب من الرحمن - جلَّ جلاله - ونيل رضوانه، ورؤية وجْهِه الكريم، وحسبُك بهذا النعيم عن أيِّ نعيم، ويا لغبطةِ مَن طَرِبتْ أذنُه بندائه، وسَعِد ببشارته، يستحقُّه مَن جعل هذا النداءَ في الدنيا حاضرًا في ذِهنه، جاريًا على لسانه، يتذكَّره كلَّ حينٍ حتى يسيطرَ على عقلِه ووجدانه، ويكون مسيرًا لعمله، ضابطًا لأقوالِه وأفعاله.
وإذا نال أهلُ هذا النداءِ جائزتَهم، وأخذوا أُعطياتِهم، وتبوَّؤوا في الجنَّة منازلَهم، تذكَّروا أقرانًا لهم في الدنيا كانوا يصدُّونهم عن السبيل، ويخذلونهم في الدِّين، ويُزيِّنون لهم ركوبَ الهوى واتِّباع الشياطين؛ فيَميلون عليهم مُنادين؛ يُوبِّخونهم على أفعالِهم، ويُذكِّرونهم بماضيهم، ويردُّون عليهم سخريتَهم، ويخبرونهم بصِدقِ موعود ربِّهم - سبحانه - لهم؛ ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ ﴾ [الأعراف: 44]، وما تنفعهم "نعم" حينئذٍ، ولو قالوها في الدنيا لنفعتْهم، ولكنَّهم قالوا: سَمِعْنا وعصينا.
يا لحسرتهم وهم يسمعون أهلَ الجَنَّة ينادونهم ويخبرونهم بأنَّهم وَجَدوا ما وُعِدوا مِنَ النعيم حقًّا، ويسألونهم عن العذابِ الذي وُعِدوا به هل وَجَدوه وهم يُقَلَّبُون فيه، والنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نادَى قتْلَى بدر من المشركين حين طُرِحوا في القليب وقال لهم: ((هلْ وجدتُم ما وعَدَكم اللهُ ورسولُه حقًّا؟ فإنِّي قد وجدتُ ما وعَدَني الله حقًّا))، فقال عمر: يا رسولَ الله، كيف تُكلِّم أجسادًا لا أرواحَ فيها؟ قال: ((ما أنتم بأسْمعَ لما أقولُ منهم، غير أنَّهم لا يستطيعون أن يردُّوا عليَّ شيئًا))؛ رواه مسلم.
ويعظُم حزنُ أهلِ النار وخزيُهم بعدَ عِلمهم بحالِ أهل الجنَّة، وفي أنفسهم تطلُّعٌ للخروج من النار، ولكنَّ أمَلَهم ينقطع حين يُنادَى فيهم أنَّ هذا العذاب دائمٌ لهم؛ لأنَّهم مطرودون عن رحمة الله - تعالى - إلى غضبه ولعنته بكُفرهم؛ ﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 44]، فيَزدادون حُزنًا وكمدًا، وهمًّا وغمًّا.
وعلى الأعرافِ بين الجَنَّة والنار أناسٌ استوتْ حسناتُهم وسيِّئاتُهم، فلم تبلغْ بهم سيِّئاتُهم دخولَ النار، ولم ترجح بهم حسناتهم فيدخُلون الجنةَ وإنْ طمِعوا فيها، ينظرون إلى الجنَّة فيَطمعون في دُخولها، وينظرون إلى النار فيُنادون مَن يعرفون مِن أهلها يُقَرِّعونهم ويُوبِّخونهم على كُفْرهم في الدنيا ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأعراف: 48].
ثم بعدَ تذكيرهم باستكبارِهم في الدنيا يُذكِّرونهم بالمستضعفين مِنَ المؤمنين حين كان المستكبِرون يَسْخرون منهم، ويرَوْن أنَّهم لا يستحقُّون رحمةَ الله وجنَّتَه؛ لأنَّهم عبيدٌ فُقراء ضُعفاء، وها هم قد نالوا الجنَّة، فيَزيد هذا النداء مِن أهل الأعراف للمستكبِرين من أهل النار غمًّا على غمِّهم، وكربًا إلى كربهم؛ ﴿ أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ [الأعراف: 49].
وحين أَيِسَ أهلُ النار مِنَ الخروج منها، وأيْقَنوا أنَّهم مُخلَّدون فيها توجَّهوا بالنداء لأهلِ الجَنَّة يسألونهم ماءً وطعامًا من شدَّة ما يجدون مِنَ العطَش والجوع؛ ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 50]، قال سعيدُ بن جُبَيْر - رحمه الله تعالى -: يُنادِي الرجلُ أباه أو أخاه، فيقول: قد احترقتُ، أفِضْ عليَّ من الماء، فيُقال لهم: أجيبوهم، فيقولون: ﴿ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِرِينَ ﴾.
وحين عَلِموا أنَّهم محرومون من الجنَّة وما فيها، وأنَّهم لن ينالوا مِن مائها وطعامها شيئًا يتوجَّهون بنِدائهم إلى خازنِ جَهنَّمَ يطلبون الموتَ ويتمنَّوْنه مِن شدَّة ما هم فيه مِن العذاب والنَّكال، نعوذ بالله تعالى مِن حالهم ومآلهم، ونسأله العِصمةَ مِن عملِ أعمالهم؛ ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ [الزخرف: 77].
يطلبون الموتَ، وقد كانوا يَفرُّون منه في الدنيا، وكان الإيمانُ والعملُ الصالح أسهلَ عليهم ممَّا هم فيه ومما يطلبون ويَرْجُون، فيكون جوابُ خازن جهنم لهم: ﴿ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزخرف: 77]، قال ابنُ عَبَّاس - رضي الله عنهما-: مكَث ألفَ سَنة، ثُمَّ قال: إنَّكُم ماكِثون.
وهذا أعظمُ ما يكون نَكالاً عليهم أن يُعذَّبوا ألْفَ سَنَة وهم يشرئبُّون إلى جوابٍ ينتهي فيه عذابُهم، حتى إذا انقضَتْ هذه المدَّة الطويلة مِنَ الانتظار والتطلُّع كان الجوابُ مخيِّبًا لآمالهم، قاطعًا لرجائِهم، مؤكِّدًا على بقائِهم وعذابِهم، فيا لله العظيم ما أشدَّ بؤسَهم حين انتظروا طويلاً، ثُم أُجيبوا بما يُخيِّبهم؛ ﴿ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزخرف: 77]؛ أيْ: لا خُرُوجَ لكُمْ مِنْها ولا مَحيدَ لكُمْ عَنْها.
نسأل الله - تعالى - أن يُجيرَنا ووالدينا مِن النار، وأن يَجْعلَنا مِن عباده الأخيار، وأن يَهَبَ لنا منازلَ الأبرار، إنَّه عزيز غفَّار.
أعوذ بالله مِن الشيطان الرجيم: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].
بارك الله لي ولكم في القرآن.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مبارَكًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 48].
أيُّها المسلمون:
بعَث الله - تعالى - رُسلَه - عليهم السلام - للناس بنداءِ الإيمان والعمل الصالِح، وأمر العباد بالاستجابة لندائهم.
نادَى الرسلُ أجمعون بالإيمان، ودَعَوا أقوامَهم إليه، ونادى به نبيُّنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين جمَع الناس وصَعِد الصفا، وقال: ((إنِّي نَذِيرٌ لكُمْ بيْنَ يَديْ عَذابٍ شديد))؛ رواه الشيخان، إنَّه نداؤه - عليه الصلاة والسلام - حين قال لأُمَّته: ((إنِّي أنا النذِيرُ العُرْيانُ، فالنَّجاء النَّجاء))؛ متفق عليه.
مَن اتَّبع هذا النداءَ نفَعَه يومَ القيامة، فكان مِن أهل هذه الآية؛ ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43].
إنَّهم مجيبو نداءِ ربِّ العالمين على لسانِ رسوله الأمين محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين يدْعون الله تعالى قائلين: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 193 - 194].
فكان الجزاءُ استجابةَ دعواتهم في الدنيا، وتأمينهم يومَ القيامة؛ ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾ [آل عمران: 195].
فضَعوا يا عبادَ الله يومَ التناد نُصبَ أعينكم، واستجيبوا لنداءِ ربِّكم، واعملوا في دُنياكم ما يُنجِّيكم في آخرتِكم، يوم يُنادي الخَلْقُ بعضُهم بعضًا يريدون النجاةَ مِن أهوال ذلك اليوم، يَطلُبون الغوثَ ولا مغيث، يفرُّ الناس بعضُهم مِن بعض، وكل واحد منهم يُنادي: نفْسي نفْسي؛ ﴿ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [القيامة: 10 - 13]، ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37].
وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم.
[ الشيخ : د. ابراهيم بن محمد الحقيل ]