الخطبة الأولى :
الحمد لله وليِّ المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه النبيُّ الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فيا أيها المُسلمون:
أُوصيكم ونفسي بخير وصيَّة، ألا وهي: تقوى الله - جل وعلا -؛ فهي خيرُ زادٍ ليوم المعاد.
إخوة الإسلام:
من أُصول الإيمان وقواعِد الإسلام: تحقيقُ الأُخُوَّة الإيمانيَّة بين المُسلمين، ونشر المودَّة في مُجتمعات المؤمنين، قال - جل وعلا -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخُو المسلم».
معاشر المسلمين:
وإن هذا الأصل العظيم والمبدأَ المتين يقتَضِي حقوقًا وواجبات، ويتطلَّبُ مسؤوليَّات والتِزامات، يقول ربُّنا - جل وعلا -: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [التوبة: 71].
إنها أُخُوَّةٌ تقتَضِي أن يسيرَ المسلم في حياتِه تجاهَ المسلمين بكل مسلَكٍ كريمٍ وفعلٍ قويمٍ، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه».
إنها الأُخُوَّة التي تحمِلُ الصدقَ من القلبِ في جلبِ المصالِح والمنافِع إلى المُسلمين، ودرءِ الشُّرور والأذى عن المُؤمنين، قال - جل وعلا -: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المسلمُ من سلِمَ المسلمون من لسانِه ويدِه».
إخوة الإيمان:
إن الأُخُوَّة الإيمانية أصلٌ كبيرٌ في الإسلام، يُزاوِلُه المسلمُ في علاقته بإخوانه المُسلمين ومُجتمعه المُسلم مُزاولَةً عباديَّة، ويُمارِسُها كشعيرةٍ من شعائِر الإيمان، يقومُ بها المسلم كفريضةٍ عظيمةٍ لا يدفعُه غرضٌ نفعيٌّ ولا مصلحةٌ ذاتيَّةٌ.
وبهذا يصيرُ المُجتمع المسلم كما أرادَه الشرعُ العظيم كالبُنيان الواحِد يشدُّ بعضُه بعضًا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ للمُؤمن البُنيان يشدُّ بعضُه بعضًا» وشبَّك بين أصابِعه.
إنها أُخُوَّةٌ تتطلَّبُ التضحيَةَ والفِداء، والتعاطُفَ والتراحُم، واللُّطفَ والرِّفقَ، وغيرها من المعاني والمسالِك الكريمة التي دعا إليها المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - في قولِه: «مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمثَلِ الجسَد الواحِد، إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَد بالسهَر والحُمَّى».
معاشر المسلمين:
ومن مُنطلقات هذه الثوابت الإيمانية والأصول الإسلامية فإن أمة الإسلام مُطالبَةٌ أن تُحافِظَ على وحدتها الإسلامية، وصفِّها الإيمانيِّ، وأن تحذَر من مكر الأعداء ومُخطَّطاتهم في تفريق الصُّفُوف، وتمزيق وحدة المسلمين، وبثِّ وسائل العداوة بينهم، ونشر عناصِر البَغضاء في مُجتمعاتهم، ﴿ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ [آل عمران: 118].
إن ما تُعانيه أمة المسلمين اليوم من تفرُّق المُجتمع الواحد، وانتِشار ثقافَة العداوَة والبَغضاء في مُجتمعٍ واحدٍ حتى آلَ الأمرُ إلى حملِ بعضِهم السلاحَ على بعضٍ لأمرٌ جليلٌ لا يُرضِي ربَّ العالمين، ولا يستقيمُ مع أحكام الدِّين، ولا يتَّفقُ مع وصايا سيِّد الخلقِ - عليه أفضل الصلاة والتسليم -.
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «من حملَ علينا السلاح فليس منَّا»، ويقول في حديثٍ آخر: «لا يُشيرُ أحدُكم على أخيه بالسِّلاح؛ فإنه لا يدرِي لعلَّ الشيطان ينزَعُ في يدِه فيقَع في حُفرةٍ من النار».
أمة الإسلام:
احذَروا من أسباب التفرُّق، تجنَّبوا عوامِل الفتن، احذَروا من أفعالٍ تُؤدِّي إلى مفاسِد لا تُحصَى، وشرورٍ لا تتناهَى من سفكِ الدماء، وهَتك الأعراض، وإفساد المُقدَّرات، وخَلخَلة الصفِّ، وزوال هيبَة مُجتمع المُسلمين، والأعداءُ يتفرَّجون فرِحين مُستبشِرين.
فذلكم ما يقعُ في الأمة، ذلك هو بُغيةُ الأعداء وهدفُهم ومقصدُهم وغرضُهم، ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 47].
إخوة الإسلام:
من أعظم أسباب الفتن التي يجبُ الحذرُ منها والبُعد عنها: السعيُ بالتكفير لعامة المُسلمين بدون بُرهانٍ ربَّانيٍّ ولا سُلطانٍ نبويٍّ، غنما من جرَّاء عاطفةٍ دينيَّةٍ لا تحمِلُ دليلاً شرعيًّا، ولا بُرهانًا ربَّانيًّا.
فما حلَّت النَّكبَات ولا وقعَت المثُلات في المسلمين عبر التاريخ إلا بمثلِ تلك المسالِك الهَوجاء، والمناهِج العَوجاء.
يقول - صلى الله عليه وسلم - مُخاطِبًا بخطابٍ صريحٍ يفهمُه كلُّ أحدٍ: «من صلَّى صلاتَنا، واستقبلَ قبلتَنا، وأكلَ ذبيحَتنا فذلك المسلم الذي له ذمَّةُ الله وذمَّةُ رسوله»؛ والحديثُ في "صحيح البخاري".
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم لا يظلِمه ولا يخذُلُه ولا يحقِره، كل المُسلم على المسلم حرامٌ دمُه ومالُه وعِرضُه».
معاشر المسلمين:
من أمارات التوفيق، وعلامات السعادة: أن يكون المسلم سببًا للأُلفة وعاملاً لجمع الكلمة ووحدة الصفِّ.
وإن من الخُذلان وأماراتِ الخُسران: السعيَ بالإفساد بين المسلمين، ونشرَ أسباب العداوة بينهم، يقول ربُّنا - جل وعلا -: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10]، ﴿ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ [الأنفال: 1].
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبِرُكم بأفضل من درجَة الصيام والصدقة والصلاة؟». قالوا: بلى. قال: «إصلاحُ ذاتِ البَيْن».
إخوة الإسلام:
إن الإسلام وهو يؤكِّدُ على تحريم الأُخُوَّة الإيمانية ليُحرِّم تحريمًا تأكيدًا أن يحمِل المسلم البغضاءَ للمؤمنين والعداوةَ للمسلمين، مما يُثيرُ فتنًا لا تُحصَى، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تباغَضُوا، ولا تحاسَدوا، ولا تدابَروا، ولا تقاطَعوا»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «تُفتَحُ أبوابُ الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفَرُ لكل عبدٍ لا يُشرِك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شَحناء، فيُقال: أنظِروا هذين حتى يصطلِحَا»
فينبغي على مل مسلم أن يحرِص على سلامة قلبِه من الغلِّ لإخوانه المسلمين، مهما اختلفَ معهم في وجهات النَّظر.
يجبُ عليه أن يُحبَّ لهم كل خيرٍ وصلاحٍِ ونفعٍ، فنبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أحبَّ أن يُزحزحَ عن النار ويُدخَل الجنة فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأْتِ إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه».
بارك الله لنا ولكم فيما سمعنا، أقول هذا القول، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رِضوانه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِه.
يا أيها المسلمون:
إن فريضةَ الحجِّ فريضةٌ تبرُزُ فيها مقاصِدُ الشريعة في تحقيق الأُخُوَّة بين المسلمين، وإشاعة المودَّة بين المؤمنين، فانتهِزوا - أيها الحُجَّاج -، انتهِزوا - أيها المسلمون - هذه الفريضةَ العظيمة لتحقيق الإخاء بينكم.
فعلى الحاجِّ أن يُظهِر في هذه الفريضَة الحرصَ على التخلُّقِ بكل خُلُقٍ كريمٍ ومسلَكٍ قويمٍ، عن جابرٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أفضلُ الإيمان عند الله - عز وجل -: إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيل الله، وحجٌّ مبرورٌ»، فسُئِل عن الحجِّ المبرُور. فقال: «إطعامُ الطعام، وطِيبُ الكلام»؛ رواه أحمد، وهو حديثٌ حسنٌ عند العلماء.
وفي خُطبة حجَّة الوداع ذكَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - المُسلمين بمقاصِد عُظمَى وغاياتٍ كُبرى، من أهمِّها: العنايةُ بتحقيق الأُخُوَّة بين المسلمين، «إن أموالَكم وأنفسَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا».
فالأذيَّةُ بالمسلم والضَّجَرُ بالمؤمن أمرٌ كبيرٌ عند الله - جل وعلا -، ومما يُضادُّ مقاصِد هذه الفريضة العظيمة.
وردَ في حديثِ أنسٍ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه فهو مُنافِقٌ وإن صامَ وصلَّى وحجَّ واعتمرَ وقال: إني مُسلم؛ إذا حدَّث كذب، وإذا وعدَ أخلَف، وإذا اؤتُمِن خان»؛ رواه أبو يعلى، وحسَّنه جمعٌ من المُحقِّقين.
ثم إن الله - جل وعلا - أمرَنا بأمرٍ عظيمٍ، ألا وهو: الصلاةُ والسلامُ على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابِه إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان.
اللهم قِهِم شرورَ أنفسهم، وسيِّئات أعمالهم، اللهم قِهِم مُخطَّطات أعدائِهم، اللهم قِهِم مُخطَّطات أعدائِهم.
اللهم حقِّق الأُخُوَّة بين المسلمين، اللهم اجعَلهم إخوةً مُتحابِّين، وعلى الخير مُتعاوِنين.
اللهم اغفر لنا وللمسلمين، اللهم اغفر لنا ولجميع المؤمنين، اللهم اغفر لنا ولجميع المؤمنين، الأحياء منهم والميتين.
اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً.
عباد الله:
اذكُروا اللهَ ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[ الشيخ : حسين بن عبد العزيز آل الشيخ ]