الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد، فقال: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، خلق فسوَّى وقدَّر فهدى، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيُّها المؤمنون:
فأوصيكم ونفسي بالتقوى؛ ألاَّ يفقدك حيث أمرَك، وألاَّ يراك حيث نَهاك.
إخوة الإيمان:
حديثُنا اليوم عن أعظم سورةٍ في كلام الله سبحانه، ومِن فضل الله أنَّها يسيرة، كلُّ المسلمين يَحفظونها؛ إذْ لا تصحُّ صلاتُهم إلاَّ بِها، هي السَّبع المثاني، أمُّ القرآن، سورة الفاتحة، ولَها أسماء أخرى، منها: الشِّفاء، والكافية، وأمُّ الكتاب، والرُّقْية، والصلاة، والواقية، والحمد.
وكثرة أسمائها تدلُّ على أهميتها وفضلها.
وإليكم حديثين في فضلها:
أخرج البخاريُّ عن أبي سعيدِ بن المُعَلَّى - رضي الله عنه - قال: كنت أصلِّي، فدعاني النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم أُجِبْه، قلتُ: يا رسول الله، إنِّي كنت أصلِّي، قال: ((ألَم يَقُل الله: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ﴾ [الأنفال: 24]؟))، ثم قال: ((ألاَ أعلِّمُك أعظمَ سورة في القرآن قبل أن تَخرج من المسجد؟))، فأخذ بيدي، فلمَّا أردنا أن نَخرج، قلتُ: يا رسول الله، إنَّك قلتَ: ((لأُعَلِّمنَّك أعظمسورة من القرآن))،قال: ﴿ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، هي السَّبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيتُه)).
وأخرج البخاريُّ أيضًا عن أبي سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه - قال: انطلق نفرٌ مِن أصحاب النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سفرة سافَروها، حتَّى نزلوا على حيٍّ من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيِّفوهم، فلُدِغ سيِّدُ ذلك الحيِّ، فسَعْوا له بكلِّ شيء، لا ينفعه شيءٌ، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرَّهط الذين نزلوا؛ لعلَّه أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيُّها الرهط، إن سيِّدَنا لُدِغ، وسعينا له بكل شيء، لا ينفعه، فهل عند أحدٍ منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إنِّي لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم، فلم تضيِّفونا، فما أنا بِراقٍ لكم حتَّى تجعلوا لنا جُعْلاً، فصالحوهم على قطيعٍ من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، فكأنَّما نشط من عقال، فانطلق يَمشي وما به قلبة، قال:فأوفَوْهم جُعْلهم الذي صالَحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقَى:لا تفعلوا حتَّى نأتِيَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقَدِموا على رسول الله، فذكروا له، فقال: ((وما يدريك أنها رُقْية؟)) ثم قال: ((قد أصَبْتُم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهمًا))، فضحك رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
أيها المصلُّون:
سنَأخذ لطائف وفوائدَ وتأمُّلات ذكَرَها أهلُ العلم في آيات هذه السُّورة.
ففي أوَّلِها ذَكَر الله الحَمْد له سبحانه، ولم يذكر لِحَمده ظرفًا زمانيًّا ولا مكانيًّا؛ ليستغرق جميع المحامد، والحمد ثناءٌ متضمِّنٌ معنى الشُّكر، وفيه مَدْحٌ لله سبحانه، وفي الحديث الصحيح: ((والحمد لله تملأ الميزان)).
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، ﴿ العالَمين ﴾ قيل: الجِن والإنس، وقيل: هو كلُّ موجودٍ سوى الله سبحانه، وهذا أعمُّ الأقوال، فيشمل الإنس والجنَّ، والملائكة والحيوان، وغيرَها، والعالَم علامةٌ يدلُّ على موجِده؛ ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ [الشعراء: 23 - 24].
قال السعديُّ: و"الرَّبُّ، هو المربِّي جميعَ العالَمين - وهم مَن سوى الله - بِخَلقه لهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنِّعم العظيمة، التي لو فقدوها لَم يُمْكِن لهم البقاء، فما بِهم من نعمةٍ، فمنه تعالى"؛ اهـ.
وفي قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]، قال العلماء: ﴿ الرَّحْمَنِ ﴾ الذي وَسِعَت رحمتُه جميعَ الخلق، حتَّى الكفَرة منهم، أما ﴿ الرَّحِيمِ ﴾ فهو أخصُّ من الرحمن؛ فهو رحيمٌ بالمؤمنين، والرحمن والرحيم اسمان من أسماء الله - تبارك وتعالى - يتضمَّنان إثبات صفة الرحمة لله تعالى كما يليق بِجَلاله.
وقال القرطبِيُّ: "وصَف الله تعالى نفسه بعد قوله: ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ بأنه: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾؛ لأنه لَمَّا كان في اتِّصافه بـ ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ترهيبٌ، قرَنَه بـ ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾؛ لما تضمَّنه من الترغيب؛ لِيَجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه، فيكون أعونَ على طاعته وأمنع"؛ اهـ كلامه.
وربُّنا المالك المتصرِّف في الدُّنيا ويوم الدينِ، ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 6]، لكن لِماذا خصَّ الملْك هنا بيوم الدِّين؟ والجواب: لأنَّه في ذلك اليوم يَظهر للخلق - تَمامَ الظهور - كمالُ ملكِ الله وعدله وحكمته، وانقطاع مُلْك الخلائق كلِّها، وفي الصَّحيحين مرفوعًا: ((يَقبض الله الأرض، ويطوي السَّماوات بيمينه، ثُمَّ يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟))، ففي ذلك اليوم، يستوي الحُكَّام والمَحكومين، فلا يدَّعي أحدٌ هنالك شيئًا، ولا يتكلم أحد إلاَّ بإذنه؛ ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ [هود: 105].
وفي قول الله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] يقول ابن تيميَّة - رحمه الله -: "تأمَّلتُ أنفع الدُّعاء، فإذا هو سؤال العون على مرضاته تعالى، ثُمَّ رأيته في الفاتحة ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾"؛ اهـ، وقال الضحَّاك: عن ابن عباس: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾؛ يعني: إيَّاك نوحِّد، ونخاف ونرجو، يا ربَّنا، لا غَيْرَك، ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ على طاعتك وعلى أمورنا كلِّها.
قال ابن كثير: "وقُدِّم المفعول وهو (إياك)، وكُرِّر؛ للاهتمام والحَصْر؛ أيْ: لا نعبد إلاَّ إياك، ولا نتوكَّل إلا عليك"؛ اهـ، وقال أيضًا: "وتحوّل الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخِطاب، وهو مناسبة؛ لأنَّه لما أثنَى على الله فكأنَّه اقترب وحضر بين يدَيِ الله تعالى؛ فلهذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾"؛ اهـ. بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيه، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيُّها الكرام:
وعَودًا إلى تأمُّلات العلماء في الآيات، قال بعض السَّلف: الفاتحة سرُّ القرآن، وسرُّها هذه الكلمة: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].
وقال السعديُّ: "وذكر (الاستعانة) بعد (العبادة) مع دخولِها فيها؛ لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى، فإنَّه إن لَم يُعِنه الله، لَم يَحصل له ما يريده من فِعل الأوامر، واجتناب النواهي"؛ اهـ.
ثم بعده الدعاء العظيم بطلب الهداية إلى الصِّراط المستقيم، الإسلام الذي هو الطريق الواضح، الموصِّل إلى رضوان الله وإلى جنَّتِه، الذي دلَّ عليه خاتَمُ رسله وأنبيائه محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال السعديُّ: "فاهدنا إلى الصراط، واهدنا في الصِّراط؛ فالهداية إلى الصِّراط: لزُوم دين الإسلام، وتَرْكُ ما سواه من الأديان، والهداية في الصِّراط تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينيَّة؛ علمًا وعمَلاً"؛ اهـ كلامه - رحمه الله.
طريق الذين أنعمَ عليهم من النبيِّين والصدِّيقين، والشُّهداء والصالحين؛ إذْ هم أهل الهداية والاستقامة، ولا تَجعَلْنا مِمَّن سلك طريق المغضوب عليهم، الَّذين عرفوا الحقَّ ولَم يعملوا به، وهم اليهودُ ومن كان على شاكلتهم، والضالِّين، وهم الذين لَم يهتدوا، فضَلُّوا الطريق، وهُم النَّصارى، ومن اتبع سُنَّتَهم.
قال العثيمين - عليه رحمة الله -: "هذا بالنِّسبة لحالهم قبل البعثة"؛ أيِ: النَّصارى، "أمَّا بعد البعثة فقد علموا الحقَّ، وخالفوه، فصاروا هم واليهود سواء، كلُّهم مغضوب عليهم"؛ اهـ.
وقال الإمام الطحاويُّ: "أنفع الدُّعاء وأعظمه وأحكَمُه دعاء الفاتحة: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]؛ فإنَّه إذا هداه هذا الصِّراط أعانه على طاعته، وترك معصيته، فلم يصبه شيءٌ، لا في الدُّنيا، ولا في الآخرة"؛ اهـ.
أيُّها المصلُّون:
هذه السورة الكريمة - على قِصَرها - اشتملت على معانٍ عظيمة؛ فاشتملت على حَمد الله وتَمجيده والثَّناء عليه، وعلى ذِكْر المعاد، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله، والتضرُّع إليه، وإخلاص العبادة له وتوحيده - تبارك وتعالى - والتبَرُّؤِ من حَوْلِهم وقوَّتِهم إلى سؤالِهم إيَّاه الهدايةَ إلى الصراط المستقيم، وهو الدِّين القويم، وتثبيتهم عليه حتَّى يُفضي بهم ذلك إلى جواز الصِّراط الحسِّي يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنَّات النعيم في جوار النبيِّين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، والتحذيرِ من مَسالك أهل الباطل، وهم المغضوب عليهم الذين عرَفوا الحقَّ وترَكوه، والضالِّين الذين عبدوا الله على جهلٍ فضَلُّوا وأضَلُّوا.
كما أنه يسنُّ لقارئ الفاتحة بعد الفراغ منه أن يقول: "آمينَ"، ومِمَّا ورد في فضله ما في الصحيحين مرفوعًا: ((إذا أمَّنَ الإمام فأمِّنوا؛ فإنه مَن وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه)).
اللهم انفعنا بِما علَّمتَنا والحمد لله وأقم الصلاة.
[ الشيخ : حسام بن عبد العزيز الجبرين ]