الحمدُ لله الذي فضَّلَ يومَ عرفةَ على أكثرِ الأيام، وجعَلَه لعِقدِ أيام العامِ واسطةَ النظام، وأكملَ فيه الدِّينَ وأتمَّ الإنعام، ورضيَ الإسلامَ لعبادهِ المؤمنينَ ديناً مُوصِّلاً إلى دارِ السلام، وجعله موسماً لعتقِ الرقابِ ومغفرة الذنوبِ والآثام، ومتجراً لنيل الإفاضاتِ والمواهب الجسام، فسبحانه من إلهٍ عظيمٍ لا يُماثلُ ولا يُضاهي ولا يُرام، وتقدَّسَ من محسنٍ كريمٍ لم يزل مُفيضاً للإكرام، يخلقُ ما يشاءُ ويختارُ عن حِكَمٍ وأسرارٍ عِظام، أحمَدُه سبحانه على إحسانه العام، وأشكرُه على التوفيق للإيمانِ والإسلام، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ذو العَظَمةِ والجلالِ والكَمالِ والدَّوام، شهادةً مُبرَّأةً من الشركِ والشُكوكِ والأوهام، وأشهدُ أن سيِّدنا محمداً عبدُه ورسولُه المخصوصُ بأكملِ قُربٍ وأرفعِ مقام، أفضلُ من صلَّى وصام، وأتقى من وَقَفَ بالمشاعرِ وطافَ بالبيتِ الحَرام، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وأصحابه الأئمةِ الأعلام.
أما بعد: فيا أيها الناسُ اتقوا الله تعالى، وشمِّرُوا لطلب الخيراتِ قبلَ فواتها، واغتنموا الأعمالَ الصالحاتِ في أوقاتها، فمنها هذه الأيامِ المفضَّلات، المخصوصةُ بالتشريفِ في مُحكم الآيات، وهُنَّ الأيامُ المعلومات، قال تعالى: ﴿ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 2، 3]، قال ابنُ عبَّاسٍ: (أيامُ العَشْرِ) رواه البخاري.
وفيهنَّ اليومُ التاسع، المخصوصُ بالفضلِ العظيمِ الواسع، فمن فضائله:
أولاً: أن الله أقسمَ به، قال تعالى: ﴿ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 2، 3]، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (اليومُ الموعُودُ يومُ القيامةِ، وإنَّ الشاهدَ يومُ الجُمُعَةِ، وإنَّ المشهُودَ يومُ عَرَفَةَ) رواه الطبراني في الكبير، وقال ابن كثير: (إسنادُهُ لا بأسَ بهِ)، وحسنه الألباني.
ثانياً: أنه اليومُ الذي أكمَلَ اللهُ لنا فيه الدِّين، فعنْ طارقِ بنِ شِهَابٍ قالَ: (جاءَ رَجُلٌ منَ اليهُودِ إلى عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه، فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ: آيةٌ في كِتابكُم تَقْرَؤونَها، لو علينا نَزَلَتْ مَعْشَرَ اليهُودِ لاتَّخَذنا ذلكَ اليومَ عيداً، قالَ رضي الله عنه: وأَيُّ آيةٍ؟ قالَ: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فقالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إني لأَعلَمُ اليومَ الذي نَزَلَتْ فيهِ، والمكانَ الذي نَزَلَتْ فيهِ، نَزَلَتْ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعَرَفَاتٍ في يومِ جُمُعَةٍ) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
قال ابنُ كثير: (هذهِ أكبَرُ نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ على هذهِ الأُمَّةِ، حيثُ أَكْمَلَ تعالى لهُم دِينَهُم، فلا يَحتاجُونَ إلى دينٍ غيرِهِ، ولا إلى نَبيٍّ غيرِ نبيِّهِم صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عليه، ولهذا جَعَلَهُ اللهُ خاتمَ الأنبياءِ، وبعَثَهُ إلى الإنسِ والجِنِّ، فلا حلالَ إلاَّ ما أَحَلَّهُ، ولا حَرَامَ إلاَّ ما حَرَّمَهُ، ولا دِينَ إلاَّ ما شَرَعَهُ، وكُلُّ شيءٍ أخبَرَ بهِ فهُوَ حَقٌّ وَصِدقٌ لا كَذِبَ فيهِ ولا خُلْف) انتهى.
ثالثاً: أنه أحد أيام عشر ذي الحِجَّة، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: (ما العَمَلُ في أيَّامٍ أَفضَلَ منها في هذهِ؟ قالُوا: ولا الجهادُ؟ قالَ: ولا الجهادُ، إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنفسِهِ ومالِهِ، فلَم يَرْجِع بشيءٍ) رواه البخاري.
قال القرطبيُّ: (يومُ عَرَفَةَ فضلُهُ عظيمٌ، وثوابُهُ جسيمٌ، يُكفِّرُ اللهُ فيهِ الذُّنوبَ العِظامَ، ويُضاعِفُ فيهِ الصالحُ من الأعمالِ) انتهى.
رابعاً: أنه يومُ العتقِ من النار: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (ما مِن يومٍ أَكثرَ من أنْ يُعتِقَ اللهُ فيهِ عبداً من النارِ مِن يومِ عَرَفَةَ، وإنهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُباهي بهِمِ الملائكةَ، فيقُولُ: ما أرادَ هؤلاءِ؟) رواه مسلم.
قال ابنُ رجبٍ: (يومُ عرفةَ هو يومُ العتقِ من النارِ، فيُعتقُ اللهُ من النارِ مَن وَقَفَ بعرفةَ ومَن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين، فلذلكَ صارَ اليومُ الذي يليه عيداً لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، مَن شهدَ الموسمَ منهم ومَن لم يشهده لاشتراكهم في العتقِ والمغفرةِ يومَ عرفة) انتهى.
ومن أعظم الأسباب لنيل العتق: أن تُحقِّق كلمة الإخلاص، قال صلى الله عليه وسلم: (خيرُ الدُّعاءِ دُعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قُلتُ أنا والنبيُّونَ من قبلي: لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهوَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
قال ابنُ رجبٍ: (فتحقيقُ كلمةِ التوحيدِ يُوجبُ عتقَ الرِّقابِ، وعتقُ الرِّقابِ يُوجبُ العتقَ من النارِ) انتهى.
خامساً: أن الدُّعاءَ فيه هو خيرُ الدُّعاءِ وأفضله، قال صلى الله عليه وسلم: (خيرُ الدُّعاءِ دُعاءُ يومِ عرفةَ) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
قال ابن عبد البرِّ: (وفيهِ من الفِقْهِ: أنَّ دُعاءَ يومِ عَرَفَةَ أفضَلُ من غيرِهِ.. وفي الحديثِ أيضاً: دليلٌ على أنَّ دُعاءَ يومِ عَرَفَةَ مُجابٌ كُلُّهُ في الأغلَبِ) انتهى.
سادساً: مُباهاةُ الله بأهلِ عَرَفاتٍ، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ يُباهي بأهلِ عَرَفَاتٍ أهلَ السماءِ، فيقُولُ لهُم: انظُرُوا إلى عِبادِي جاءُوني شُعْثاً غُبْراً) رواه ابن خزيمة في صحيحه وصحَّحه الألباني.
سابعاً: رجاءُ مغفرة الله لأهل عَرفاتٍ التبعات وهي مظالم العباد، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (وقَفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعَرَفَاتٍ وقد كادتِ الشمسُ أن تؤوب، فقال: يا بلالُ أنصتْ ليَ الناس، فقامَ بلالٌ فقالَ: أَنْصتُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصتَ الناس، فقالَ صلى الله عليه وسلم: معشرَ الناس، أتاني جَبرائيلُ عليهِ السلامُ آنِفاً فأقرأني من ربِّي السلام، وقالَ: إنَّ اللهَ عزَّ وَجلَّ غَفَرَ لأهلِ عَرَفَاتٍ وأهل المشعر، وضمن عنهُم التَّبعَات، فقامَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه فقالَ: يا رسول الله هذا لنا خاصَّة؟ قال صلى الله عليه وسلم: هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة، فقالَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: كَثُرَ خيرُ اللهِ وطاب) رواه المنذري وصحَّحه الألباني.
قال ابن حجر: (وأمَّا حُقُوقُ العِبادِ فلا تَسقُطُ بالهجرَةِ والحَجِّ إجماعاً) انتهى.
قال الملا القاري: (يَجُوزُ بل يَقَعُ كمَا دَلَّ عليهِ بعضُ الأحاديثِ أنَّ اللهَ تعالى إذا أرادَ لعاصٍ أنْ يَعْفُوَ عنهُ وعليهِ تَبِعَاتٌ عُوِّضَ صاحبُها من جزيلِ ثوابهِ ما يكُونُ سَبَباً لعَفْوِهِ ورِضاهُ.. إنهُ بفرضِ عُمُومِهِ مَحمُولٌ على أنَّ تَحَمُّلَهُ تعالى التَّبعَاتِ من قَبيلِ: ﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، وهذا لا تكفيرَ فيهِ، وإنما يكُونُ فاعِلُهُ تحتَ المشيئةِ) انتهى.
ثامناً: يومُ عَرَفةَ هو أغيظُ يومٍ يمرُّ على الشيطان، رُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما رُئِيَ الشيطانُ يوماً هُوَ فيهِ أصغَرُ ولا أَدْحَرُ ولا أَحْقَرُ ولا أَغْيَظُ منهُ في يومِ عَرَفَةَ، وما ذاكَ إلاَّ لِما رَأَى مِن تَنَزُّلِ الرَّحمةِ، وتجاوُزِ اللهِ عنِ الذُّنوبِ العِظامِ، إلاَّ ما أُرِيَ يومَ بدرٍ، قيلَ: وما رأَى يومَ بدرٍ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: أمَا إنَّهُ قد رأَى جبرِيلَ يَزَعُ الملائكةَ) رواه مالكٌ مرسلاً، قال البيهقي: (هذا مُرسلٌ حَسَنٌ)، قال ابنُ عبد البرِّ: (هذا حديثٌ حَسَنٌ في فضلِ شُهُودِ ذلكَ الموقِفِ المُباركِ، وفيهِ دليلٌ على الترغيبِ في الحَجِّ، ومعنى هذا الحديثِ محفُوظٌ من وُجُوهٍ كثيرةٍ، وفيهِ دليلٌ على أنَّ كُلَّ مَن شَهِدَ تلكَ المشاهِدَ يَغفِرُ اللهُ لهُ إن شاءَ اللهُ.. وفيهِ الخَبَرُ عن حَسَدِ إبليسَ وعداوتِهِ لعنَهُ اللهُ) انتهى.
تاسعاً: أن إدراك الحج بالوقوف بعرفة: قال صلى الله عليه وسلم: (الحجُّ عَرفَةُ) رواه الترمذي.
قال سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ: (وهذا أجْوَدُ حديثٍ رواهُ سُفيانُ الثورِيُّ)، قال وكيعٌ: (هذا الحديثُ أُمُّ المناسِكِ).
عاشراً: أن صومَهُ أفضلُ يومٍ يُصامُ تطوُّعاً، قال صلى الله عليه وسلم: (صيامُ يومِ عَرَفَةَ أحتَسِبُ على اللهِ أن يُكَفِّرَ السنةَ التي قَبْلَهُ، والسنةَ التي بَعْدَهُ) رواه مسلم، وسُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن صَومِ يومِ عَرَفَةَ؟ فقالَ: (يُكَفِّرُ السَّنةَ الماضِيَةَ والباقيَةَ) رواه مسلم.
الحادي عشر: ليسَ من سُنةِ يومِ عرفةَ أن يجتمعَ الناسُ في مساجد بلدانهم بعد العصرِ للدُّعاءِ والذكرِ، فعن أبي حفصٍ الْمَدَنِيِّ قالَ: (اجتَمَعَ الناسُ يومَ عَرَفَةَ في مسجدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَدْعُونَ بعدَ العَصْرِ, فخَرَجَ نافعٌ مولى ابنِ عُمَرَ مِن دارِ آلِ عُمَرَ فقالَ: أيُّها الناسُ, إنَّ الذي أنتُم عليهِ بدعَةٌ وليسَتْ بسُنَّةٍ, إنَّا أَدْرَكْنَا الناسَ ولا يَصْنَعُونَ مِثلَ هذا, ثُمَّ رجَعَ فلمْ يَجلِسْ, ثمَّ خرَجَ الثانيَةَ ففَعَلَ مثلَهَا, ثُمَّ رَجَعَ) رواه ابن وضَّاح في البدع والنهي عنها.
وقال ابنُ عَوْنٍ: (شَهِدتُ إبراهيمَ النَّخَعِيَّ سُئِلَ عنِ اجتماعِ الناسِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؟ فكَرِهَهُ، وقالَ: مُحْدَثٌ) رواه ابن وضَّاح.
قال ابنُ وهبٍ: (سَمِعتُ مالكاً يُسأَلُ عن جُلُوسِ الناس في المسجد عَشِيَّة عَرَفَةَ بعدَ العصرِ واجتماعهم للدُّعَاء؟ فقالَ: ليسَ هذا من أمرِ الناس، وإنما مفاتيحُ هذه الأشياءِ من البدع) انتهى.
فاغتنمُوا أيها المسلمون فضلَ يومِ عرَفَةَ واحذرُوا البدع والموانعَ والقواطِع.
فيا عباد الله لئن شطَّت بكم عوائقُ عن مقام أهل عرفة، فقد شاركتموهم في الإسلام والإيمان، وشُرِعَ لكم اجتماعٌ بصلاة العيدِ يُقاربُ اجتماعَهُم، ولئن اجتمعَ الحُجَّاجُ بمنىً يومَ العيدِ يستكملون مناسكَ الحجِّ، ويتقرَّبون إلى الله بالعجِّ والثجِّ، فقد شَرَعَ اللهُ لكم الخروج إلى صلاة العيد والتقرُّب إليه بذبح الأضاحي، فأحيُوا سُنةَ أبيكم إبراهيمَ بإهراقِ الدِّماءِ في ذلك اليوم العظيم، فإنَّ الله ابتلاهُ بأن أَمَرَهُ بذبح وَلَدِه وفلْذَةِ كَبِدِه الذي أتاه على كِبَر، وهُوَ بِكْرُهُ ووَحِيدُهُ الذي ليسَ لهُ غيرُهُ، ليُسلِمَ قلبَهُ للهِ ولا يكونُ فيه شِرْكةٌ لسواه، فإنَّ العبادَ لذلكَ خُلقوا، وبه أُمروا، فامتثلَ أمرَ ربِّه طائعاً، وخَرَجَ بابنه مُسارعاً، ثُمَّ عَرَضَ ذلكَ على وَلَدِهِ ليكُونَ أَطْيَبَ لقلبهِ وأَهْوَنَ عليهِ مِن أنْ يَأْخُذَهُ قَسْرًا وَيَذْبَحَهُ قَهْرًا، و﴿ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصافات: 102]، فَبَادَرَ الغُلامُ الحليمُ يَبَرُّ والدَهُ الخليلَ إبراهيمَ، لا مُتوقِّفاً ولا مُتفكِّراً، ﴿ قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]، فاستسلما جميعاً للقضاءِ المحتوم، وسلَّما أمرَهُما للحيِّ القيوم، ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ [الصافات: 103].
قال ابنُ كثير: (والمعنَى تَلَّهُ للجبينِ أيْ ألقَاهُ على وَجْهِهِ، قيلَ: أرَادَ أنْ يَذبَحَهُ مِن قَفَاهُ لئلاَّ يُشاهدَهُ في حالِ ذبحِهِ، قالهُ ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ وقتادةُ والضَّحَّاكُ، وقيلَ: بلْ أَضْجَعَهُ كمَا تُضجَعُ الذَّبائِحُ، وبَقِيَ طَرَفُ جبينِهِ لاصِقاً بالأرضِ، وأَسْلَمَا أَيْ سَمَّى إبراهيمُ وكَبَّرَ وتَشَهَّدَ وسَلَّمَ الوَلَدَ للْمَوْتِ) انتهى، عند ذلكَ أدركَتُه رحمةُ أرحمِ الراحمينَ، ونُوديَ: ﴿ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 104، 105]، وأُتيَ بكبشٍ من الجنةِ فذبحه فداءَ وَلَدِه، فأحيا نبيُّكم محمدٌ صلى الله عليه وسلم هذه السُّنةَ وعظَّمها، فأهدى في حِجَّته مائةَ بدنةٍ، قال أنس: (ضحَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بكبشَيْنِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، ذبَحَهُمَا بيدِهِ، وسَمَّى وكَبَّرَ) متفقٌ عليه.
فبادروا رحمني الله وإياكم إلى إحياء سُننِ المصطَفَيْنَ الأخيار، ولا تكونوا ممن بخل وآثرَ كنْز الرِّيالِ على طاعةِ الملِكِ الغفَّار، فأكثرُ العلماءِ على أنها سُنةٌ مؤكَّدةٌ، وبعضهم يَرى الوُجوب على القادر، وأفضلُها: أكرَمُها وأسمَنُها وأغلاها، وتُجزي الشاةُ عن الرَّجُلِ وأهلِ بيته، والبَدَنةُ عن سَبْعِ شِياهٍ، والمجزي من الضأنِ ما تمَّ له ستةُ أشهرٍ، ومن الإبلِ ما تمَّ له خمسُ سنين، ومن البقرِ ما تمَّ له سَنَتان، ومن المعزِ ما تمَّ له سنة، ولا تُجزئُ العَوْرَاءُ البيِّنُ عَوَرُها، ولا العرجاءُ البيِّن ظَلْعُها، ولا المريضةُ البيِّنُ مَرَضُها، ولا الهزيلةُ التي لا تُنقي، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يُضَحَّى بالعَرْجَاءِ بَيِّنٌ ظَلَعُهَا، ولا بالعَوْرَاءِ بَيِّنٌ عَوَرُها، ولا بالمريضةِ بَيِّنٌ مَرَضُها، ولا بالعَجْفَاءِ التي لا تُنْقِي) رواه الترمذي وصحَّحه وقال: (والعَمَلُ على هذا الحديثِ عندَ أهلِ العِلْمِ) انتهى.
ويُكره العضباءُ التي قُطعَ أكثرُ أُذُنِها أو قرنها.
ويُستحبُّ أن تأكل منها وتتصدَّق، لعموم قول الله تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 28]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (فَكُلُوا وادَّخِرُوا وتصَدَّقُوا) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم، ووقتُ الذبح من انقضاءِ صلاةِ العيدِ إلى آخرِ اليوم الثالث من أيام التشريق.
أسألُ اللهَ تعالى لي ولكم ووالدينا وأهلينا حُسنَ الخاتمةِ المقرُونةِ بقَبُولِ التوبَةِ، وحُسْنَ العَمَلِ المُوجِبِ للمَثُوبَةِ من غيرِ سَبْقِ العُقُوبةِ، اللهُمَّ أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، ولا تجعلنا عن بابك مطرودين، ولا من فضلك محرومين، ولا تجعل مصيبتنا في الدين، أنتَ وليُّنا فاغفر لنا ولوالدينا وأهلينا وارحمنا وأنت خيرُ الغافرين، اللهُمَّ آمين.