المصحف المرتل

( أسلوب القرآن الحكيم )


الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: الحديث عن "أسلوب القرآن الحكيم" يُجمَع في سبع مسائل:


المسألة الأُولى: معنى أسلوب القرآن.

المسألة الثانية: مُناسَبَتُهُ للعامَّةِ والخَاصَّة.

المسألة الثالثة: إرضاؤُهُ العقلَ والعاطِفةَ.

المسألة الرابعة: جَوْدَةُ سَبْكِهِ وإِحكامُ سَرْدِهِ.

المسألة الخامسة: تَعَدُّدُ أسالِيبِه واتِّحادُ مَعْنَاه.

المسألة السادسة: جَمْعُه بين الإِجمالِ والبَيانِ.

المسألة السابعة: إِيجازُ لَفْظِه وَوَفَاءُ مَعْنَاه.


المسألة الأُولى: معنى أسلوب القرآن:

• معنى «الأسلوب» في اللغة: يُقال للسَّطْرِ من النَّخيل: أُسْلوب، وكُلُّ طريق ممتد فهو أُسْلُوب، والأُسلوب: الطَّريقُ، والوَجْهُ، والمَذْهَبُ، يقال: أنتم في أُسْلُوب سُوءٍ، والأُسْلُوب: الفَنُّ، يقال: أخذ فلان في أساليبَ من القول؛ أي: أفانينَ منه، وإِنَّ أَنْفَهُ لفي أُسْلُوب، إذا كان مُتكَبِّراً [لسان العرب (1/ 473)].

ويقال: سلكتُ أسلوبَ فلان في كذا: طريقَتَه ومذهَبَه. وطريقة الكاتب في كِتابَته.

ويُقال: أخذنا في أساليبَ مِنَ القَولِ: فنونٍ متنوعةٍ. والجَمْعُ: أسالِيب [المعجم الوسيط (ص441)، مادة: «سَلَبَ»].

«والأسالِيبُ الفُنُونُ المُخْتَلِفَةُ» [المفردات في غريب القرآن (ص244)].


• معنى «الأسلوب» في الاصطلاح: الأسلوب في اصطلاح الأدباء وعلماء العربية هو: الطَّريقةُ الكلامِيَّةُ التي يسلكها المتكلِّم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه ومفرداته. أو هو المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلِّم في تأدية معانيه ومقاصده من كلامه، أو هو طابع الكلام الذي انفرد به المتكلِّم. [خصائص القرآن الكريم (ص18)].


• معنى «أسلوب القرآن»: وبناءً على ما تقدم فإن أسلوب القرآن العظيم: هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه. وإذا كان الأمر كذلك فلا غرابة أن يكون للقرآن العظيم أسلوب خاص به، لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله؛ ذلك أنه كلام رَبِّ العالمين تبارك وتعالى.


وأساليبُ المتكلمين وطرائقُهم في عرض كلامهم من شعرٍ أو نثرٍ، تتعدَّدُ بتعدد أشخاصهم، وأذواقهم، بل تتعدَّدُ في الشخص الوحد أحياناً بتعدد الموضوعات التي يتناولها، والفنون التي يعالجها. ومن الجدير بالذكر هنا معرفة أنَّ الأسلوب غير المفردات والتراكيب التي يتألَّف منها الكلام، وإِنَّما هو الطَّريقة التي انتهجها المؤلِّفُ في اختيار المفردات والتراكيب لكلامه.


وهذا هو السر في أنَّ الأساليب مختلفة باختلاف المتكلمين مِنْ ناثرين وناظمين، مع أنَّ المفردات التي يستخدمها الجميع واحدة، والتَّراكيب في جملتها واحدة، وهذا هو السر أيضاً في أنَّ القرآن العظيم لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، بل جاء كتاباً عربياً جارياً على مألوف العرب، فمن حروفهم تألَّفتْ كلماته، ومن كلماتهم تألَّفَتْ تراكيبه، ولكنَّ المعجِزَ والمدهش أنَّ القرآن قد أعجزهم بأسلوبه الفذِّ، ولو دخل عليهم مِنْ غير هذا الذي يعرفونه، لأمكن أن يُلتمس لهم عذر في ذلك، وأن يسلم لهم طعن، ولذلك قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾ [فصلت: 44]. [مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 278)].


• تنوُّع أسلوب القرآن: مَرَّ المجتمع الأوَّل - الذي نزل عليه القرآن - في تحولِّه من حال إلى حال، بأحوال مختلفة يحتاج كُلٌّ منها إلى أسلوب خاص في مخاطبته.


فحين كان الكفر هو السائد بينهم: مالت الآيات إلى قِصَرِ الفواصل مع قُوَّة الألفاظ، بما يشتد قرعُه على الأسماع، ويصعق القلوب؛ ليوائم جَوَّ الرَّدْع والزَّجر والتَّقريع للمخاطَبين، وهذا هو الغالب في آيات السور المكية.


وحين ساد الإيمان وأقبلت القلوب على القرآن: طالت المقاطع والآيات في البيان المتأني والوقع الهادئ بما يريح الآذان، ويجذب القلوب؛ ليوائم جَوَّ المحبة والاتِّباع والانقياد، وهذا هو الغالب في آيات السور المدنية.


فتغَيُّر الأسلوبِ من حال إلى حال، دليلٌ واضح على أنَّ القرآن العظيم يشتمل على أساليب صالحةٍ لمخاطبة البشرية على كل حال. خاصةً إذا عَلِمنا أن أسلوب القرآن ليس موجَّهاً إلى شخص بعينه، ولا إلى جيل بعينه، بل خُوطبت به أجيال كثيرة ومتتابعة، إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها. [خصائص القرآن الكريم (ص19، 20)].


 المسألة الثانية: مُناسَبَتُهُ للعامَّةِ والخَاصَّة:

ما دام القرآن العظيم مخاطَباً به الناس جميعاً، على امتداد الحياة كلِّها، فقد كان من حكمته أن يكون مناسِباً للعامَّة والخاصَّة، فمن خصائص أسلوبه: أنه لا يعلو عن أفهام العامَّةِ ولا يقصر عن مطالب الخاصَّة، فإذا قرأَتْهُ العامَّةُ أحسُّوا بجلالِهِ، وذاقوا حلاوته، وفهموا منه على قدر استعدادهم ما يُرضي عقولَهم وعواطفَهم، وكذلك الخاصَّة إذا قرؤوه، لكنهم يفهمون منه أكثر مما يفهمه العامَّة.


وهذان مطلبان لا يدركهما الفُصحاء والبُلَغاء من الناس، ولذلك لجأوا إلى قاعدةٍ يعتذرون بها فقالوا: (لكلِّ مقامٍ مقال)، أمَّا أنْ يأتي كلام واحد يُخاطَب به العلماء والعامَّة، والملوك والسُّوقَة، والأذكياء ومَنْ دونهم، والكبير والصَّغير، والذَّكر والأُنثى، والعرب والعجم، ويرى فيه كلٌّ منهم مطلبه ويدرك من معانيه ما يكفيه، فذلك ما لا يوجد إلاَّ في القرآن العظيم وحده.


فالآياتُ نفسُها لم تتبدل ولم تتغير، لكن فيها من العطاء بحيث يدرك منه كُلُّ قارئ قَدْرَ طاقتِه، وَوُسْعَ عقلِه وفكره، فلا يحمله ما لا يطيقه، ولا يقصر عن حاجته.


وهو لا يُخاطِبُ عامةً وخاصةً في عَصْرٍ من العصور، بل يُخاطِبُ أولئك في كل عصر ومِصْرٍ إلى أنْ يرث الله الأرض ومَن عليها. ولن تجد فيه الخاصَّةُ ـ فَضْلاً عن العامة ـ قصوراً في معانيه، ولا خللاً في تراكيبه، ولا عَيْباً في أساليبه.


والعامَّةُ كذلك - على الرغم مِنْ تَحَوُّل الأساليب وتغيُّرها من قرن إلى قرن - لا تنبو عن أفهامهم لفظة، ولا يلتوي على ألبابهم معنى، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان أكثر مما يحتاجون إلى فهم لغتهم العربية.


وهذا لا يكونُ ولن يكونَ أبداً في كلام البشر الناقص، الذي إِنْ أرضى العامَّة بمعانيه الواضحة، وحقائقه الظاهرة، هبط عن مستوى الخاصَّةِ ومشربِهم وأذواقِهم، وإِنْ أرضى العلماءَ منهم بدقائقه وإشاراته، عجزت عقولُ العامَّةِ عن فهمه، ومِنْ ثَمَّ تنصرف عنه أذهانُهم، وتَمُجُّه أذواقهُم. [خصائص القرآن الكريم (ص34، 35)].


والأعجب من ذلك - وليس عَجَباً في حقِّ الله - أن أسلوب القرآن العظيم تجده يوائم تطوُّر البشريَّة على مرِّ العصور، وتطوُّر عقولها، فلا تجد فيه إخلالاً، ولا تجد فيه تقادماً، بل عطاؤه متجدِّد باستمرار، ومعانيه متكاثرة على الدَّوام؛ فهي كالبحر الزَّخار والسَّيل الجرَّار، والأسلوب هو هو، والنظم نفسُه لم يتغيَّر ولكنَّه يستوعب كلَّ هذه المعاني وهذا من أسرار عظمة القرآن الكريم.


المسألة الثالثة: إرضاؤُهُ العقلَ والعاطِفةَ:

في الوقت الذي تُخاطب بعض الفلسفات في الإنسان عقلَه، وأخرى تخاطب قلبَه، فإنَّ القرآن العظيم في خطابه يُحَقِّق التَّوازن بمخاطبة العقل والقلب معاً، فيجمع بذلك الحقَّ والجَمالَ معاً، ففي كلِّ إنسان قُوَّتان: (قوة تفكير وقوة عاطفة ووجدان).


قوة التَّفكير تغوص باحثةً عن الحقائق والمعاني المستترة.

وقوة العاطفة تطفو فتبحث عن الجمال الظَّاهرِ، وهذه النفس الإنسانيَّة إمَّا أن تغوص مع تلك أو تطفو مع هذه، فلا تستطيع أنْ تغوصَ أو تطفو في لحظة واحدة، أو وقت واحد.


ولن يوجد إنسان سواء كان عالِماً، أو أديباً، أو شاعراً يُمسِك بالأمر من طرفيه. فيأتي بكلام واحد يفي بحاجة هاتين القوَّتين، ولو وُجِدَتْ عند أحدٍ من البشر فإنهما لا يعملان إلاَّ مناوبةً كُلَّما قويت واحدة، ضعفت الأخرى.


وهو أمر يجده الواحد من نفسه، فإذا قويت (قُوَّة الوجدان) تناقصت (قوة التَّفكير)، وحين تظهر (قوة التفكير) تضعف (قوة الوجدان). وقد أدرك العلماءُ ذلك فقالوا: لا يقضي القاضي وهو حاقن، أو جائع، أو غضبان؛ لأنَّ حرارة الغضب تستر العقلَ فلا يصلح للقضاء. [محاسن الإسلام، لمحمد بن عبد الرحمن البخاري (ص114)].


والشَّاهد من هذا: أنَّ (قوة التَّفكير) و(قوة الوجدان) تتنازعان في النفس الإنسانية، وتكون الغلبة لإحداهما، فإِنْ تكلَّم المتكلِّم ووَفَّى بحقِّ العقل بَخَسَ حَقَّ العاطفة، وإنْ وفَّى حقَّ العاطفة بَخَسَ حقَّ العقل، فإمَّا أن يأتي بكلام علمي مجرَّد يُرضِي به فكرَه وعقلَه، وإمَّا أن يأتي بكلام أدبي منمَّق يُرضي به عاطفتَه. [خصائص علوم القرآن (ص36)].


والقرآن العظيم وحده هو القادر على مُخاطبة العقل والقلب معاً، وأن يمزج الحقَّ والجمالَ فلا يبغي بعضُهما على الآخر.


وإنَّ المتأمِّلَ في كتاب الله تعالى يلحظ ذلك جلياً، ففي الوقت الذي تُورَدُ فيه الحجج والبراهين العقلية على البعث والإعادة - في مواجهة مُنكريها - لا يُهْمَلُ نصيب القلب من تشويق وترقيق، فَتُسَاقُ الأدلة سَوْقاً يهز القلوب هزاً، ويُمتعُ العاطفة امتاعاً، قال الله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [يس: 78].


لقد أَوْرَدت هذه الآية الكريمة شُبهةً على البعث ثم ردَّت عليها بعبارة وجيزة، بليغة، فصيحة، تَنَاسقت فيها الألفاظ، وسمت فيها المعاني، مع دِقَّةٍ في الدلالة، وإِنَّ أفصح الفصحاء، وأعلم العلماء، لو اجتمعا لم يُقَرِّرا ذلك إِلاَّ في صفحات وصفحات، إنْ هما قَرَّراه.


ولنتأملْ قولَه تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [الأنبياء: 22]. عند ذلك يتبيَّن لنا أنه اجتمع في سبع كلمات عمق المقدِّمات اليقينية، ووضوح المقدِّمات المُسَلَّمة، مع دقة في التصوير لما يؤول إليه التنازع من فساد عظيم، فلو ابتغى مثلَه فلاسفةُ العصور كلِّها ما استطاعوا تقريره إلاَّ بعبارة طويلة جافَّة.


• نماذج وصور: لننظرْ إلى القرآن العظيم وهو يسوق قصّة يوسف مثلاً، كيف يأتي من خلالها بالعظات البالغة، ويطَّلِعُ من خلالها بالبراهين السَّاطعة، وآداب الشَّرف، والعفاف، والأمانة، وخشية الله، إذ قال الله تعالى في فَصْلٍ من فصول تلك القصَّة الرائعة. ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23]. فلنتأملْ في هذه الآية الكريمة كيف قُوبِلَتْ دواعي الغواية الثلاثة، بدواعي العفاف الثلاثة:


فدواعي الغواية الثلاثة:

1) مراودتُها له.

2) إغلاق الأبواب.

3) دعوتُها له: ﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾.


ودواعي العفَّة الثلاثة:

1) قوله: ﴿ إِنَّهُ رَبِّي ﴾.

2) ﴿ أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾.

3) ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾.


فصوَّرت هذه الآية الكريمة - وهي تسوق قصَّة من القصص - جدلاً كبيراً بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، وبسطت جوانب القضيَّة، وشخَّصت الحدث، وكأنما تنظر إليه من زاوية خفيَّة. ليصل الشَّاب في النِّهاية والفتاة كذلك إلى إمكان الاستعلاء فوق المغريات مهما كانت جاذبيَّتُها، وذلك بعد أن مَلَكَ التَّعبير القرآني هنا أقطار النَّفس كلِّها، فامتلأت اقتناعاً بالعِفَّة.


وهكذا نجد القرآنَ كُلَّه يوجه العقول والقلوب معاً جنباً إلى جنب بأسلوب سائغ، ويسير على النفوس [خصائص القرآن الكريم (ص35-38)]، ينبئ عن عظمته، وعلوِّ شأنه، وتأثيره في النفوس وفاعليته.


المسألة الرابعة: جَوْدَةُ سَبْكِهِ وإِحكامُ سَرْدِهِ:

جودة السَّبك، وإحكام السَّرد، أمر في غاية الأهمية، ذلك أَنَّ الكلام هو مرآة المعاني، فإذا اتَّسق الكلام، وترابطت أجزاؤه، وتلاحمت أفراده وأُحْكِمَ سرده، صَفَتْ معانيه وانجلت، فجودة السَّبك وإحكام السَّرد ضرورة لصفاء المعاني، وتحقيقُ ذلك أمر صعب المرتقى، فهو يحتاج إلى مَلَكة راسخة، وَحِذْق مكين في علم الكلام.

[خصائص القرآن الكريم (ص39)].


و«القرآن الكريم تقرؤه من أوَّلِه إلى آخره فإذا هو محكم السَّرد، دقيق السَّبك، متين الأسلوب، قويُّ الاتصال، آخذ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجُمَلِه، يجري دم الإعجاز فيه كله من أَلِفِه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل؛ كأنه حلقة مفرغة، أو كأنه سِمْط[السِّمْطُ: هو القلادة، وجمعه سُموطٌ انظر: لسان العرب (7/ 322)، مادة: «سمط)] وحيد، وعِقد فريد، يأخذ بالأبصار: نظمت حروفه وكلماته، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخِرُه مساوقاً لأوَّله، وبدا أوَّلُه مواتياً لآخِره». [مناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 53)].


ومَنْ أراد جودةً قويةً في سبك كلامه، وإحكاماً متناسقاً في سرده: فليختر موقعاً مناسباً لكل عبارة من كلامه، من حيث بداية الكلام، أو نهايته، أو مضمونه، أو خلاصته، وليحسن ربط الكلام بعضه ببعض، ومزج بعضه ببعض، وليختر أحسن الأساليب في ذلك، فقد يكون الإسناد مرة أفضل، وقد يكون التَّعليق أُخرى، وقد يكون العطف ثالثة، وقد تكون الإضافة رابعة وهكذا، ثم بعد ذلك عليه أن يُنَقِّي عباراته من الحشو، فإنْ أَتْقَنَ ذلك انتقل إلى المعنى الثاني وفَعَلَ به كما فعل بالمعنى الأول، وزاد على ذلك إتقان ربطه بالمعنى السَّابق وبالمعنى اللاَّحق.


وَرَصْفُ المعاني كرصف المباني: يَضَعها البَنَّاءُ لَبِنَةً لبنة، ويضع بين اللَّبِنات ما يربط بعضها ببعض، ثم يعود عليها كُلِّها بما يُغطِّي آحادها ويُظهرها كالسَّبيكة الواحدة، ثم يكرُّ أُخرى يُزيل ما خرج عن سمتها أو نبا عن حَدِّها، وعلى قدر إتقانه للبناء تكون مهارته. والمتأمِّلُ في كلام البشر يجد أكثرَهم لا يتقنون تنظيم أجزاء كلامهم، بل يسوقونه أشْتاتاً مفكَّكة، وكثيراً ما عاب النُّقَّاد فحولَ الشُعراء بسوء التَّخلص حين ينتقلون من معنى إلى معنى في القصيدة الواحدة.


وقد يضطر أصحاب البلاغة - للربط بين غرض وغرض - إلى استخدام أسماء الإشارة، أو أدوات التنبيه، أو كثرة التَّقسيم، والتَّرقيم، والتَّبويب، والعناوين، وعبارات: (أَمَّا بعد)، (ونقول كذا)، (قلت)، أو الإشارة في مقدمة الأبحاث إلى تقسيمه إلى أبواب، وفصول، ومباحث، كاعتذار مسبق للانتقال من معنى إلى معنى. [خصائص القرآن الكريم (ص40)].


أمَّا القرآن العظيم فإنه على تنوُّع أغراضه، وطول نَفَسِه في سوره وآياته، ينتقل من مقصد إلى مقصد، غير مستعين بوسائل العجز المساعِدة، بل بطريقة بديعة أَخَّاذَة قد نشعر بها أو لا نشعر، ولن نُفَرِّقَ في ذلك بين أطول سورة في القرآن كسورة البقرة، وبين أقصر سور القرآن. [مناهل العرفان في علوم القرآن (ص291)].


• شبهة وردُّها: و«قد وَهَمَ مَنْ قال: لا يُطلْب للآية الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المفَرَّقة.


وفَصْلُ الخطاب، أنَّها على حسب الوقائع تنزيلاً، وعلى حسب الحكمة ترتيلاً وتأصيلاً، فالمصحف على وفق ما في اللَّوح المحفوظ مرتَّبةٌ سورُهُ كلُّها وآياته بالتوقيف، كما أُنزل جملة إلى بيت العِزَّة، ومن المعجز البيِّن أسلوبه ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كُلِّ آيةٍ أنْ يُبحثَ أول كل شيءٍ عن كونها مكمِّلة لما قبلها، أو مستقلة، ثم المستقلَّة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك عِلمٌ جَمٌّ، وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سِيقت له»[الإتقان في علوم القرآن (2/ 108).


قال الله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]. ولاحِظْ أنَّ التَّفصيل في دائرة: الإحكام، الذي كان سوراً منيعاً، وكان كذلك؛ لأنَّ مُنَزِّله هو: ﴿ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 6]. والقرآن بذلك نعمة تُذْكَر فَتُشْكَر: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ﴾ [الكهف: 1].


المسألة الخامسة: تَعَدُّدُ أسالِيبِه واتِّحادُ مَعْنَاه:

ومعنى ذلك أنَّ القرآن العظيم يُورد المعنى الواحد بألفاظ وبطرائق مختلفة، بمقدرة معجزة، يلهث دونها - بآماد - أبلغ البلغاء، ويكبو خلفها - بقرون - أفصح الفصحاء، فقد اعتنى القرآن العظيم بتصريف القول، بحيث لا يَمَلُّ قارئه، ولا يسأم سامعه.


ويُكتفى هنا ببعض ما أورده الزُّرقانيُّ رحمه الله من أمثلةٍ على تصريف القول في القرآن، فقد أورد أمثلةً لتعبير القرآن عن طلب الفعل من المخاطَبين بِعدَّة أوجه، وكذلك تعبيره عن النهي بوسائل عِدَّة، وكذلك تعبيره عن إباحة الفعل بِطُرق مختلفة [مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 292 - 294)، وتأمَّلْ هذه الأمثلة جيداً فهي من الأهمية بمكان].


وما لا يُدرك جُلُّه فلا يترك أَقَلُّه، فَيُقْتَصرُ هنا على التعبير الأوَّل منها فقط - تعبير القرآن العظيم عن طلب الفعل من المخاطَبين - بالوجوه الآتية:

1) الإتيانُ بصريح مادَّةِ الأمر، نحو قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].

2) والإِخبارُ بأنَّ الفِعل مكتوبٌ على المكلفين، نحو: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ ﴾[البقرة: 183].

3) والإِخبارُ بكونه على النَّاسِ، نحو: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97].

4) والإِخبارُ عن المُكلف بالفِعل المطلوب منه، نحو: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]؛ أي: مطلوب منهن أن يتربصن.

5) والإخبار عن المبتدأ، بمعنى يطلب تحقيقه من غيره، نحو: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]؛ أي: مطلوب من المخاطَبين تأمين من دخل الحرم.

6) وطَلَبُ الفعل بصيغة فعل الأمر، نحو: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾ [البقرة: 238] أو بلام الأمر نحو: ﴿ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 29].

7) والإخبارُ عن الفعل بأنه خير: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 220].

8) وَوَصْفُ الفعل وصفاً عنوانياً بأنه بِرٌّ، نحو: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى ﴾ [البقرة: 189].

9) وَوَصْفُ الفعل بالفَرْضِيَّة، نحو: ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 50]. أي: مِنْ بذل المهور والنفقة.

10) وترتيب الوعد والثواب على الفعل، نحو: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ [البقرة: 245].

11) وترتيب الفعل على شَرْطٍ قَبْلَه، نحو: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ ﴾ [البقرة: 196].

12) وَإيقاعُ الفعل مَنْفياً مَعْطُوفاً عَقِبَ اسْتِفهامٍ، نحو: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17].

13) وإيقاعُ الفعل عَقِبَ تَرَجٍّ، نحو: ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 14].

14) وترتيبُ وَصْف شنيع على تَرْكِ الفعل، نحو: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]. فهذا مثالٌ واحد من أمثلة تصريف القول في القرآن العظيم، جاء (الأمر) فيه بهذه الأساليب المتعدِّدة.


وهكذا نجد التعبيرَ القرآني يُعدِّد الأساليب - في أداء المعنى الواحد - بألفاظ متعددة بين إنشاء وإخبارٍ، وإظهارٍ وإضمار، وتكلُّمٍ وغَيبةٍ وخطابٍ، ومُضِيٍّ وحضور واستقبال، واسمية وفعلية، واستفهام، وامتنان، ووصف، وَوَعْد ووعيد، إلى غير ذلك.


وتصريفُ القول في القرآن العظيم على هذا النحو مِنَّةٌ يمنُّها الله عزّ وجل على الناس ليستفيدوا عن طريقها كثرةَ النَّظرِ في القرآن، والإقبال عليه قراءةً وسماعاً، وتدبراً وعملاً، ولذلك قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [الإسراء: 89]. وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54]. وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ﴾ [الإسراء: 41]. فلا عُذْرَ - بعد ذلك - لمن أهمل هذه النِّعمةَ وسَفِه نفسَه. [مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 295)].


المسألة السادسة: جَمْعُه بين الإِجمالِ والبَيانِ:

جَمَعَ القرآنُ العظيم بين الإجمال والبيان، مع أنهما غايتان متقابلتان لا تجتمعان في كلامٍ واحدٍ للناس! بل كلامهم إِمَّا مجمل وإمَّا مُبَيَّن. فالكلمة الواحدة من كلام البشر: إمَّا واضحة المعنى لا تحتاج إلى بيان، وإمَّا خفيَّة المعنى فتحتاج إلى بيان، وذلك كلام «المخلوق». أمَّا القرآن العظيم - وحده - لأنَّه كلام «الخالق» فالأمر فيه مختلف، فهو خارق للعادة، ولا عجب أن يجتمع في آية واحدة منه، الإجمال والبيان جميعاً.


فإذا قرأ الواحدُ مِنَّا آيةً من القرآن وَجَدَ فيها من الوضوح والظهور، حتَّى يظن أنه أحاط بكل معانيها، فإذا أعاد النَّظر مرَّةً أُخرى ظهر له منها معانٍ جديدة، كلها صحيح أو يحتمل الصِّحة، فإن زاد التَّمعُّن وأطال النَّظر في الآية، انفتح له من المعاني والمعارف والأسرار ما لم يظهر له مِنْ قبل، حتَّى يَكِلَّ وينتهي، ومعانيها لا تزال تفيض بالخيرات والبركات، ومن هنا ندرك السِرَّ في اختلاف العلماء في استنباط الفوائد والحِكم من الآيات قِلَّةً وكثرة، ويستدلون بها من نواحٍ شتَّى ومختلفة، والآيةُ نفسُها لم تتغير. [خصائص القرآن الكريم (ص45)].


• نماذج: ومن أمثلة الآيات التي جَمَعَتْ بين الإجمال والبيان قولُ الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [البقرة: 212].


«هل ترى كلاماً أبْيَنَ من هذا في عقول الناس، ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة، فإنك لو قلتَ في معناها: أنه سبحانه يرزق مَنْ يشاءُ بغير محاسب يحاسبه ولا سائل يسأله: لماذا يبسط الرزق لهؤلاء، ويقدره على هؤلاء؟ أصبتَ. ولو قلتَ: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإِنفاق خوف النَّفاد أصبتَ، ولو قلتَ: إنه يرزق مَنْ يشاء من حيث لا ينتظر ولا يحتسب أصبتَ، ولو قلتَ: إنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله أصبتَ، ولو قلتَ: يرزقه رزقاً كثيراً لا يدخل تحت حصر وحساب أصبتَ.

فعلى الأوَّل يكون الكلام: تقريراً لقاعدة الأرزاق في الدُّنيا، وأنَّ نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاقٍ بِعِلمه أو عَمَله، بل تجري وفقاً لمشيئته وحِكَمِهِ سبحانه في الابتلاء، وفي ذلك ما فيه من التَّسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين.

وعلى الثاني يكون تنبيهاً على سعة خزائنه وبسطة يَدِهِ جلَّ شأنه. وعلى الثالث يكون تلويحاً للمؤمنين بما سيفتح الله لهم من أبواب النَّصْر والظَّفَر، حتى يبدل عسرهم يسراً، وفقرهم غنًى من حيث لا يظنون.

وعلى الرابع والخامس يكون وَعْداً للصالحين، إمَّا بدخولهم الجنة بغير حساب، وإمَّا بمضاعفة أجورهم أضعافاً كثيرة لا يحصره العدُّ، ومَنْ وقَفَ على علم التَّأْويل واطَّلَعَ على معترك أفهام العلماء في آية، رأى من ذلك العَجَب العاجِب». [النبأ العظيم (ص117، 118)].


وهو أمر لا نجد مِثْلَه فيما سوى القرآن العظيم، فدلَّ ذلك على عظمته وعلوِّ شأنه، وفخامته، ورفعته التي بها نعتزُّ، فلا يجمل بنا أن نجد العلوَّ والفخامة والرِّفعة في سواه، وإلاَّ فقد حقَّرنا عظيماً أو حاولنا ذلك!


المسألة السابعة: إِيجازُ لَفْظِه وَوَفَاءُ مَعْنَاه:

المعنى واللَّفظ طرفان متقابلان إِنْ أدنيتَ هذا أبعدتَ الآخر، هذا في كلام البشر، أمَّا في القرآن العظيم فالأمر مختلف تمام الاختلاف، ففي كل آية من آياته، نجد بياناً قاصداً مُقَدَّراً على حاجة النفوس البشرية، دون أن يزيد اللَّفظ على المعنى، ومع هذا القصد اللَّفظي، نجد أنَّ القرآن العظيم قد جَلَّى لنا المعنى في صورة كاملة، لا تُنقِصُ شيئاً من المعنى، ولا تزيد فيه شيئاً دخيلاً وغريباً، وهو كما قال الله تعالى عنه: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1].


هؤلاء البشر إِنْ أتقنوا اللَّفظ، حتى لا يكونَ طويلاً، قَصَّروا في المعنى فعادوا يشرحون ويوضِّحون فيقعون في أسوأ مِمَّا هربوا منه، وإن اتَّجهت أذهانهم إلى المعنى لإِظهاره جليّاً، فلا مَفَرَّ لهم من الإسهاب والإطناب.


وهو أمر يدركِه المرء من نفسه، فإِنْ كَتبَ شيئاً اليوم، كَرَّ عليه غداً وقال: لو أضفتُ كذا، لكان أوفى، ولو قلتُ كذا، لكان أفضل، ولو حذفتُ كذا لكان أنسب وأجمل، ولو عاد ذلك مرات ومرات لوجد نفسَه في كُلِّ مرة يحتاج فيها إلى المحو، أو الإثبات، أو التَّهذيب، أو الاختصار، فيدفعه لذلك أمران لا ثالث لهما، إمّا أن يكون في المعنى قصور، أو يكون في اللَّفظ إسهاب. [خصائص القرآن الكريم (ص47)].


• تميُّز القرآن: «لا يمكن أنْ تظفَر في غير القرآن، بمثل هذا الذي تظفر به في القرآن، بل كُلُّ مِنطيق بليغ مهما تفوق في البلاغة والبيان، تجده بين هاتين الغايتين، كالزَّوج بين ضَرَّتين: بمقدار ما يُرضي إحداهما يُغضِب الأُخرى؛ فإن ألقى البليغُ بالَه إلى القصد في اللَّفظ وتخليصه مما عسى أن يكون من الفضول فيه، حمله ذلك في الغالب على أن يَغُضَّ من شأن المعنى، فتجيء صورته ناقصة خفيَّة، ربما يصل اللَّفظ معها إلى حَدِّ الألغاز والتَّعميَة؛ وإذا ألقى البليغُ بالَه إلى الوفاء بالمعنى وتجلية صورته كاملة، حَمَله ذلك على أن يخرج على حد القصد في اللفظ، راكباً متن الإسهاب والإكثار، حرصاً على ألاَّ يفوته شيء من المعنى الذي يقصده». [مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 297)].


ومهما أوتي هذا البليغ من البلاغة، فإنه يستطيع أن يجمع بين هذين الأمرين (الإيجاز اللَّفظي، والوفاء بالمعنى) أحياناً في جمل قليلة، لكن سيبدو عليه القصور بعد ذلك، وينفلت من يده زمام الكلام، وتستعصي عليه الجمل والعبارات.


ومَنْ كان في شكٍّ من ذلك فليسألْ علماءَ البيان وصيارفته:

«هل ظفرتم بقطعةٍ من النَّثر، أو بقصيدة من الشِّعر، كانت كلها أو أكثرها جامعاً بين وفاء المعنى وقَصْدِ اللفظ؟

ها هم أُولاءِ يُعلنون حُكْمَهم صريحاً بأنَّ أبرع الشُّعراء لم يُكتب له التَّبريزُ والإجادة، والجَمْعُ بين المعنى النَّاصع واللَّفظ الجامع إلاَّ في أبيات معدودة من قصائد محدودة، أمَّا سائر شِعرهم بعد، فبين متوسط ورديء، وها هم أُولاءِ يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقلَّ منه، على النَّاثِرين من الخطباء والكُتَّاب»[مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 297-298)].


فمن أراد أن يقرأ كلاماً جَمَعَ هاتين الغايتين، فليقرأ القرآن العظيم من أوَّله إلى آخره، حيث البيان الكامل الذي لا يحسُّ فيه عوجاً ولا أمتاً. فألفاظه الوجيزة المُحْكَمة تؤدي المعاني بلا قصور، وبأحسن عبارة، وبدون زيادة كلمة، فضلاً عن حرف، ونجد في كل كلمة أو حَرْفٍ من حروفه دلالة عظيمة، بحيث لو حُذِفَ منه، ربما تغيَّر المعنى، أو حُرِّفَ، أو شُوِّه، وكذلك الزيادة، ذلك أنَّه كلام العليم الخبير، الذي تنزَّه عمَّا يعتري البشر من الكَلِّ والقصور والإِعياء، فلا تأخذه سِنة ولا نوم، وهو العزيز الحكيم. [خصائص القرآن الكريم (ص48)].


قال ابن عطية رحمه الله وهو يتحدث عن عظمة القرآن:

«لو نُزِعَتْ منه لفظة ثم أُدِيرَ لسان العرب في أن يُوجد أحسنَ منها لم يُوجد». [تفسير ابن عطية (1/ 52)].


فالقرآن العظيم يختلف عن كلام البشر - مهما علا وارتقى

«حتَّى كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي أُوتي جوامع الكلم، وأشرقت نفسه بنور النُّبوة والوحي، وَصِيغ على أكمل ما خلق الله، فإِنَّه مع تحليقه في سماء البيان، وسُموِّه على كلام كُلِّ إنسان، لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن».[مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 298)].


[ الشيخ : محمود بن أحمد الدوسري ]

إرسال تعليق

0 تعليقات
* Por favor, não spam aqui. Todos os comentários são revisados ​​pelo administrador.