المصحف المرتل

شرح حديث جبريل وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان (2)


الركن الثاني: إقام الصلاة:
الصلاة سُمِّيت صلاة؛ لأنها صلة بين العبد وبين الله، فإن الإنسان إذا قام يصلي فإنه يناجي ربه ويحاوره، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى قال: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، قال: مجَّدني عبدي، فإذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».

فتأمل؛ محاورةً ومناجاةً بين الإنسان وبين ربه، ومع ذلك فالكثير منا في هذه المناجاة معرض بقلبه، تجده يتجوَّل يمينًا وشمالًا، مع أنه يناجي من يعلم ما في الصدور عز وجل؛ وهذا من جهلنا وغفلتنا.

فالواجب علينا - و نسأل الله أن يُعيننا عليه - أن تكون قلوبنا حاضرة في حال الصلاة حتى تبرأ ذمتنا، وحتى ننتفع بها؛لأن الفوائد المترتبة على الصلاة إنما تكون على صلاة كاملة؛ ولهذا كلنا يقرأ قول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، ومع ذلك يأتي الإنسان ويصلي فلا يجد في قلبه إنكارًا لمنكر، أو عرفًا لمعروف زائدًا عما سبق حين دخوله في الصلاة؛ يعني: لا يتحرك القلب ولا يستفيد؛ لأن الصلاة ناقصة، هذه الصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين.

وقد فرضها الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بدون واسطة من الله إلى الرسول، وفرضها عليه في أعلى مكان وَصَلَه بَشَر، وفرضها عليه في أشرف ليلة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ليلة المعراج، وفَرَضَها عليه خمسين صلاة في اليوم؛ فهذه أربعة أمور:
أولًا: لم يكن فَرْضُها كفرض الزكاة والصيام والحج، بل هو من الله تعالى مباشرة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.

ثانيًا: من ناحية المكان فهو في أعلى مكان وصل إليه البشر، لم تُفرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأرض.

ثالثًا: من ناحية الزمان في أشرف ليلة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهي ليلة المعراج.

رابعًا: في الكمية لم تفرض صلاة واحدة، بل خمسون صلاة، مما يدل على محبة الله لها، وأنه يحب من عبده أن يكون مشغولًا بها، ولكن الله جعل لكل شيء سببًا؛ لما نزل الرسول عليه الصلاة والسلام مُسَلِّمًا لأمر الله قانعًا بفريضة الله، ومر بموسى عليه الصلاة والسلام، وسأله موسى: ماذا فرض الله على أمتك؟ قال: «خمسين صلاة في اليوم والليلة»، قال: إن أمتك لا تطيق ذلك؛ إنني جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، اذهب إلى ربك واسأله أن يخفف على أمتك. وهذا جزء من حديث طويل أخرجه البخاري، فذهب إلى الله، وجعل يتردد بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين الله عز وجل حتى جعلها الله خمسًا، لكن الله بمنه وكرمه - له الحمد والفضل - قال: هي خمس بالفعل، وخمسون في الميزان، وليس هذا من باب قَبِيل الحسنة بعشر أمثالها، بل من باب قَبيل الفعل الواحد يجزئ عن خمسين فعلًا، فهذه خمس صلوات عن خمسين صلاة، فكأنما صلينا خمسين صلاة، كل صلاة الحسنة بعشر أمثالها؛ لأنه لو كان هذا من باب مضاعفة الحسنات لم يكن هناك فرق بين الصلوات وغيرها، لكن هذه خاصة، صلِّ خمس كأنما صليت خمسين صلاة، قال: هي خمس في الفعل وخمسون في الميزان، وهذا يدل على عِظَم هذه الصلوات؛ ولهذا فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده في اليوم والليلة خمس مرات لابد منها، لابد أن تكون مع الله خمس مرات تناجيه في اليوم والليلة.

لو أن أحدًا من الناس حصل له مقابلة بينه وبين الملك خمس مرات باليوم لعُدَّ ذلك من مناقبه ولفرحَ بذلك وقال: كل يوم أجالس الملك خمس مرات، فأنت تناجي ملك الملوك عز وجل في اليوم خمس مرات على الأقل، فلماذا لاتفرح بهذا؟ احمد الله على هذه النعمة وأقم الصلاة.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وتقيمَ الصَّلاة»؛ يعني: تأتي بها قويمة تامة بشروطها وأركانها وواجباتها.

فمن أهم شروطها: الوقت: لقول الله سبحانه: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103].

وإذا كانت الصلوات خمسًا فأوقاتها خمسة لغير أهل الأعذار، وثلاثة لأهل الأعذار الذين يجوز لهم الجمع؛ فالظهر والعصر يكون وقتاهما وقتًا واحدًا إذا جاز الجمع، والمغرب والعشاء يكون وقتاهما وقتًا واحدًا إذا جاز الجمع، هذان وقتان، والفجر وقت واحد؛ ولهذا فصلها الله عز وجل: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْر ﴾ [الإسراء: 78]، ولم يقل: لدلوك الشمس إلى طلوع الفجر! بل قال: ﴿ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ﴾؛ وغسق الليل يكون عند منتصفه؛ لأن أشد ما يكون ظلمة في الليل منتصف الليل؛ لأن منتصف الليل هو أبعد ما تكون الشمس عن النقطة التي فيها هذا المنتصف؛ ولهذا كان القول الراجح أن الأوقات خمسة كما يلي:
1- الفجر: من طلوع الفجر الثاني - وهو البياض المعترض في الأفق - إلى أن تطلع الشمس.

وهنا أنبه فأقول: إن تقويم أم القرى فيه تقديم خمس دقائق في أذان الفجر على مدار السنة، فالذي يصلي أول ما يؤذن يعتبر أنه صلى قبل الوقت، وهذا شيء اختبرناه في الحساب الفلكي، واختبرناه أيضًا في الرؤية؛ فلذلك لا يعتمد هذا بالنسبة لأذان الفجر؛ لأنه مقدم، وهذه مسألة خطيرة جدًّا، لو تكبر للإحرام فقط قبل أن يدخل الوقت ما صحت صلاتك وما صارت فريضة.

وقد حدثني أناس كثيرون ممن يعيشون في البر وليس حولهم أنوار، أنهم لا يشاهدون الفجر إلا بعد هذا التقويم بثلث ساعة؛ أي: عشرين دقيقة أو ربع ساعة أحيانًا، لكن التقاويم الأخرى الفلكية التي بالحساب بينها وبين هذا التقويم خمس دقائق.

على كل حال وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني - وهو البياض المعترض - إلى طلوع الشمس.

2- الظهر: من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، لكن بعد أن تخصم ظل الزوال؛ لأن الشمس خصوصًا في أيام الشتاء يكون لها ظل نحو الشمال، هذا ليس بعبرة، بل العبرة أنك تنظر إلى الظل مادام ينقص فالشمس لم تزُل، فإذا بدأ يزيد أدنى زيادة فإن الشمس قد زالت، فاجعل علامةً على ابتداء زيادة الظل؛ فإذا صار ظل الشيء كطوله خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر.

3- ووقت العصر: إلى أن تصفر الشمس، والضرورة إلى غروبها.

4- ووقت المغرب: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر، وهو يختلف؛ أحيانًا يكون بين الغروب وبين مغيب الشفق ساعة وربع، وأحيانًا يكون ساعة واثنتين وثلاثين دقيقة؛ و لذلك وقت العشاء عند الناس الآن لا بأس به، واحدة ونصف (30، 1) غروبي.

5- وقت العشاء: من خروج وقت المغرب إلى منتصف الليل؛ بمعنى أنك تقدر ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر ثم تنصفه؛ فالنصف هو منتهى صلاة العشاء.

ويترتب على هذا فائدة عظيمة: لو طهرت المرأة من الحيض في الثلث الأخير من الليل فليس عليها صلاة العشاء ولا المغرب؛ لأنها طهرت بعد الوقت، وقد ثبت في «صحيح مسلم» من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «وقت العشاء إلى نصف الليل».

وليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث على أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر أبدًا؛ ولهذا فإن القول الراجح إلى نصف الليل، والآية الكريمة تدل على هذا؛ لأنه فَصَل الفجر عن الأوقات الأربعة؛ ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ﴾؛ أي: زوالها، ﴿ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ﴾؛ جمع الله بينها لأنها ليس بينها فاصل؛ فمن ساعة خروج الظهر يدخل العصر، ومن ساعة خروج العصر يدخل المغرب، ومن ساعة خروج المغرب يدخل العشاء، أما الفجر فقال:﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78]، فالفجر لا تتصل بصلاة، لا قبلها ولا بعدها؛ لأن بينها وبين الظهر نصف النهار الأول، وبينها وبين صلاة العشاء نصف الليل الآخر.

واعلم أن الصلاة قبل دخول الوقت لا تُقبل حتى ولو كبَّر المصلي تكبيرة الإحرام ثم دخل الوقت بعد التكبيرة مباشرة، فإنها لا تقبل على أنها فريضة؛ لأن الشيء الموقت بوقت لا يصح قبل وقته؛ كما لو أراد الإنسان أن يصوم قبل رمضان ولو بيوم واحد فإنه لا يجزئه عن رمضان، كذلك لو كبر تكبيرة الإحرام قبل دخول الوقت فإن الصلاة لا تقبل منه على أنها فريضة، لكن إن كان جاهلًا لا يدري، صارت نافلة ووجب عليه إعادتها فريضة.

أما إذا صلاها بعد الوقت فلا يخلو من حالين:
أ- إما أن يكون معذورًا بجهل، أو نسيان، أو نوم، فهذا تُقبل منه.
 الجهل: مثل أن لا يعرف أن الوقت قد دخل وقد خرج، فهذا لا شيء عليه، فإنه يصلي الصلاة متى علم وتُقبل منه؛ لأنه معذور.

 النسيان: مثل أن يكون الإنسان اشتغل بشغل عظيم أشغله وألهاه حتى خرج الوقت، فإن هذا يصليها ولو بعد خروج الوقت.

 والنوم كذلك، فلو أن شخصًا نام على أنه سيقوم عند الأذان، ولكن صار نومه ثقيلًا فلم يسمع الأذان، ولم يسمع المنبه الذي وضعه عند رأسه حتى خرج الوقت، فإنه يصلي إذا استيقظ، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك».

ب- فأما الحالة الثانية: فأن يؤخر الصلاة عن وقتها عمدًا بدون عذر، فاتفق العلماء على أنه آثم وعاصٍ لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقال بعض العلماء: إنه يكفر بذلك كفرًا مخرجًا عن الملة، نسأل الله العافية، فالعلماء متفقون على أنه إذا أخَّرَ الصلاة عن وقتها بلا عذر فإنه آثم عاص، ولكن منهم من قال: إنه يكفر، ولكن الجمهور - وهو الصحيح - أنه لا يكفر، ولكن اختلفوا فيما لو صلاها في هذه الحال؛ يعني: بعد أن أخرجها عن وقتها عمدًا بلا عذر ثم صلى، فمنهم من قال: إنها تقبل - أي: صلاته - لأنه عاد إلى رشده وصوابه، ولأنه إذا كان الناسي تقبل منه الصلاة بعد الوقت فالمتعمد كذلك؛ ولكن القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة أنها لا تقبل منه إذا أخرها عن وقتها عمدًا ولو صلى ألف مرة؛ وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»؛ يعني: مردود غير مقبول عند الله، وإذا كان مردودًا فلن يقبل، وهذا الذي أخرج الصلاة عمدًا عن وقتها إذا صلاها فقد صلاها على غير أمر الله ورسوله، فلا تُقبل منه.

و أما المعذور فهو معذور؛ ولهذا أمره الشارع أن يصليها إذا زال عذره، أما من ليس بمعذور فإنه لو بقي يصلي كل دهره فإنها لاتقبل منه هذه الصلاة التي أخرجها عن وقتها بلا عذر، ولكن عليه أن يتوب إلى الله ويستقيم، ويكثر من العمل الصالح والاستغفار؛ ومن تاب تاب الله عليه.

الشرط الثاني من إقام الصلاة: الطهارة، فإنه لا تُقبل صلاة بغير طهور؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تُقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ».

فلابد أن يقوم الإنسان بالطهارة على الوجه الذي أُمر به، فإن أحدث حدثًا أصغر؛ مثل البول والغائط والريح والنوم وأكل لحم الإبل فإنه يتوضأ.

وفروض الوضوء كما يلي:
غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، كما أمر الله بذلك في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة:6]؛ ومن الرأس: الأذنان، ومن الوجه: المضمضة والاستنشاق في الفم والأنف، فلابد في الوضوء من تطهير هذه الأعضاء الأربعة، غُسْلٌ في ثلاثة ومسح في واحد.

وأما الاستنجاء، أو الاستجمار: فهو إزالة النجاسة، ولا علاقة له بالوضوء، فلو أن الإنسان بال أو تغوَّط واستنجى ثم ذهب لشغله، ثم دخل الوقت، فإنه يتوضأ بتطهيره الأعضاء الأربعة، ولا حاجة إلى أن يستنجي؛ لأن الاستنجاء إزالة نجاسة، متى أُزيلت فإنه لا يعاد الغسل مرة ثانية، إلا إذا رجعت مرة ثانية.

والصحيح: أنه لو نسي أن يستجمر استجمارًا شرعيًّا ثم توضأ، فإن وضوءه صحيح؛ لأنه ليس هناك علاقة بين الاستنجاء وبين الوضوء.
أما إذا كان محدثًا حدثًا أكبر مثل الجنابة فعليه أن يغتسل، فيعمم جميع بدنه بالماء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ﴾ [المائدة: 6]، ومن ذلك: المضمضة والاستنشاق؛ لأنهما داخلان في الوجه، فيجب تطهيرهما كما يجب تطهير الجبهة والخد واللحية، والغسل الواجب الذي يكفي أن تعم جميع بدنك بالماء، سواء بدأت بالرأس أو بالصدر أو بالظهر أو بأسفل البدن، أو انغمست في بركة وخرجت منها بنية الغسل.

والوضوء في الغسل سنة وليس بواجب، ويُسن أن يتوضأ قبل أن يغتسل، وإذا اغتسل فلا حاجة إلى الوضوء مرة ثانية؛ لأنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه توضأ بعد اغتساله؛ فإذا لم يجد الماء، أو كان مريضًا يخشى من استعمال الماء، أو كان برد شديد وليس عنده ما يسخن به الماء، فإنه يتيمم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: 6]؛ فبيَّن الله حال السفر والمرض أنه يتيمم فيهما إذا لم يجد الماء في السفر.

أما خوف البرد فدليله قصة عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية فأجنبَ، فتيمَّم وصلى بأصحابه إمامًا، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جُنُب؟ قال: نعم يا رسول الله ذكرت قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، وخفت البرد فتيممت صعيدًا طيبًا فصلَّيت.

فأقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يأمره بالإعادة؛ لأن من خاف الضرر كمن فيه الضرر، لكن بشرط أن يكون الخوف غالبًا أو قاطعًا، أما مجرد الوهم فهذا ليس بشيء.

واعلم أن طهارة التيمم تقوم مقام طهارة الماء، ولا تنتقض إلا بما تنتقض به طهارة الماء، أو بزوال العذر المبيح للتيمم، فمن تيمم لعدم وجود الماء ثم وجده فإنه لابد أن يتطهر بالماء؛ لأن الله تعالى إنما جعل التراب طهارة إذا عُدم الماء.

وفي الحديث الذي أخرجه أهل السنن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصعيد الطيب وضوء المسلم - أو قال طهور المسلم - وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرَتُه فإن ذلك خير».

وفي «صحيح البخاري» من حديث عمران بن حصين الطويل، في قصة الرجل الذي اعتزل فلم يصلِّ مع النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: «ما منعك أن تصلي معنا؟»، قال: أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك»، ثم حضر الماء، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل ماءً وقال: «أفرغه على نفسك»؛ أي: اغتسل به.

فدل هذا على أنه إذا وُجد الماء بطل التيمم، وهذه - ولله الحمد - قاعدة حتى عند العامة، يقولون: إذا حضر الماء بطل التيمم.

أما إذا لم يحضر الماء ولم يَزُل العذر، فإنه يقوم مقام طهارة الماء ولا يبطل بخروج الوقت، فلو تيمم الإنسان وهو مسافر وليس عنده ماء وتيمم لصلاة الظهر مثلًا، وبقي لم يحدث إلى العشاء فإنه لا يلزمه إعادة التيمم، لأن التيمم لايبطل بخروج الوقت، لأنه طهارة شرعية؛ كما قال الله في القران الكريم: ﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ْ ﴾ [المائدة: 6]؛ فبيَّن الله أن طهارة التيمم طهارة.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»؛ بفتح الطاء؛ أي: أنها تُطهِّر: «فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ».

وفي حديث آخر: «فعنده مسجده و طهوره»، يعني: فليتطهر وليصلِّ. هذا من الأشياء المهمة في إقامة الصلاة: المحافظة على الطهارة. واعلم أن من المحافظة على الطهارة: إزالة النجاسة من ثوبك وبدنك، ومصلاك الذي تصلي عليه. فلابد من الطهارة في هذه المواضع الثلاث: البدن، والثوب، والمصلى.

1- أما الثوب فدليله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء اللاتي يصلِّين في ثيابهن وهن يحضن بهذه الثياب أن تُزيل المرأة الدم الذي أصابها من الحيض من ثوبها، تحكُّه بظفرها ثم تقرصه بأصبعيها الإبهام والسبابة ثم تغسله.

ولما صلى ذات يوم بأصحابه وعليه نعاله خلع نعليه فخلع الناس نعالهم، فلما سلَّم سألهم لماذا خلعوا نعالهم، قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال: «إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا»؛ فدل هذا على أنه لابد من اجتناب النجاسة في الملبوس.

2- أما المكان: فدليله أن أعرابيًّا جاء فبال في طائفة من المسجد؛ أي: في طرف من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لكنه أعرابي - والأعراب الغالب عليهم الجهل - فصاح به الناس وزجروه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بحكمته نهاهم، وقال: اتركوه، فلما قضى بوله دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القران»، فقال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمَّدًا ولا ترحم معنا أحدًا؛ لأن الصحابة زجروه، وأما النبي عليه الصلاة والسلام فكلَّمه بلطف، فظن أن الرحمة ضيقة لا تتسع للجميع، وقال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا.

ويُذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: «لقد حجَّرت واسعًا يا أخا العرب»، و أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يُصَبَّ على البول ذَنُوبٌ من ماء، مثل الدلو؛ لتطهر الأرض.

3- وأما طهارة البدن: فقد ثبت في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله»، وفي رواية: «لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة»، والعياذ بالله.

فدل هذا على أنه لابد من التنزه من البول، وهكذا بقية النجاسات، ولكن لو فُرض أن الإنسان في البَرِّ وتنجس ثوبه وليس معه ما يغسله به، فهل يتيمم من أجل صلاته في هذا الثوب؟ لا يتيمم، وكذلك لو أصاب بدنَه نجاسة؛ رِجله، أو يده، أو ساقه، أو ذراعه، وهو في البر وليس عنده ما يغسله، فإنه لا يتيمم؛ لأن التيمم إنما هو في طهارة الحدث فقط، أما النجاسة فلا يتيمم لها؛ لأن النجاسة عين قذرة تطهيرها بإزالتها، إن أمكن فذاك، وإن لم يمكن تبقى حتى يمكن إزالتها. والله اعلم.

يتبع ...

إرسال تعليق

0 تعليقات
* Por favor, não spam aqui. Todos os comentários são revisados ​​pelo administrador.