حرَص الإسلام على نشر ثقافة الإصلاح بين الناس، وجعله من أفضل الأعمال، وفي هذا المعنى يقول الله -تعالى-: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، وعناية القرآن الكريم بالإصلاح ظاهرة وواضحة، ورغَّبت السنة النبوية في هذا العمل المبارك، وحسبنا دليلاً على ترغيب الإسلام هذا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن بالكذب، إذا كان سيؤدي إلى تقريب وجهات النظر، وإلى الإصلاح بين الناس، وما الإذن بالكذب - الذي هو من أشنع الأفعال - إلا دليل على حرص الإسلام على حصول الصلح بين الناس؛ لأن البديل للإصلاح هو الإفساد والافتراق.
لقد وصف الله -تعالى- الصلح بأنه خير، في هذه الكلمة الجامعة، التي تستوعب صور الخير كلها، فهو خير على أي وجه كان؛ بسبب آثاره الإيجابية، وهو خير على الأطراف المعنية، وإن بدا لبعضهم أنه غير هذا؛ بسبب شرط أو إجحاف، ولا يخفى أننا نعني بالصلح هنا ذاك الصلحَ الذي يكون على هدى من الشرع؛ لأنه هو الذي يثمر الخير، وينشر الخير، أما الصلح الذي لا يستنير أصحابُه بنور الشرع، فإنه الإفساد بعينه.
لقد تحدث القرآن الكريم عن هذا النوع من الإصلاح الموهوم، حين وبخ المنافقين على أعمالهم الشنيعة، والتي يزعمون أنها إصلاح؛ فقال الله -تعالى- في شأنهم: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11، 12].
ليس كل مَن ادَّعى الإصلاح مصلحًا؛ ذلك لأن جهود الإصلاح لا تؤتي ثمارها، ما لم تتوافر لها - أولاً وقبل كل شيء - النيةُ الصالحة الخالصة، التي ترغب في الإصلاح من حيث هو.
لقد تحدث القرآن الكريم عن هذه الإرادة الصادقة، وهو يتحدث عن صورة من صور الإصلاح، وهي صورة الإصلاح بين الزوجين، ويقاس عليها غيرها؛ يقول الله - تعالى -: ﴿ إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾ [النساء: 35].
وحديث أهل التفسير عن عود الضمير في هذه الآية، يأذن بالكشف عن هذه الإرادة، ذلك أن من معاني هذه الآية أن الله جعل الإصلاح منوطًا برغبة صادقة تكون لدى الحَكمَين، وهما المصلحان، فكان المعنى: إن أراد أهل الإصلاح أن يتم الصلحُ بين الطرفين المتخاصمين، وعلِم الله -تعالى- وجود هذه النية، فإنه يبارك في الجهود، ويوقع الصلح بين المتخاصمين.
لقد فهم هذا المعنى الخليفة المسلم عمر - رضي الله عنه - حين أرسل حكمين للإصلاح بين زوجين، فلما عادا قالا له: فشلنا في الإصلاح، فأمر - رضي الله عنه - بجلدهما، فتعجبا من صنيعه هذا، فقال لهما: ما أردتما الإصلاح؛ فإن الله يقول: ﴿ إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾، فلو أردتم الإصلاح، لوفَّق الله بين الزوجين.
إن الاتفاق بين الأطراف المتنازعة يدل على رغبة لدى المصلحين في حصول هذا الصلح، وهي شهادة على حسن النية، وسلامة القصد، فجزى الله مَن أصلح بين الناس بالخير ".
« ا.د : زيد العيص »