" الكلمةُ الطيبةُ جوازُ سفر إلى القلوب، يهَشُّ لها السمع، وتُسر بها النفسُ، وينشرح لها القلب، فتُبقي فيه أثرَها الطيب، وتنشر فيه أريجها الفواح، وتوتي أكلها كل حين؛ توثيقَ أواصر، وتقويةَ روابط، وتعزيزَ وشائج، ونشرَ وئام. ورضوانٌ من الله أكبر.
وهي شجرة وارفة الظلال، مثمرة يانعة، ضربت في باطن الأرض جذورَها، وتمددت في الآفاق أغصانها وفروعها؛ قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [إبراهيم: 24 - 25].
وبالكلمة الطيبة تنال مطالب الآخرة فهي أسهل طريق لجني الحسنات، ورفع الدرجات، وحط السيئات، ودخول الجنات؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة) [ رواه البخاري ومسلم ].
فبالكلمة الطيبة تحصل الرغبات كلها، فكم قربت بعيداً، ويسرت صعباً، وذللت عسيراً، وفتحت أبواباً، وعبدت طرقاً، وهيأت أسباباً، وبلغت غايات لا تبلغ إلا بشق الأنفس.
تنساب انسياب الهواء، فتعطر الأرجاء، وتطيب الأنحاء، وتلطف الأجواء، وتصعد إلى السماء، تجاوز السحب، وتشق الحجب، مشتاقة لربها، وإليه مستقرها ومستودعها؛ قال الله تعالى: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10].
يسيرة على المتقين، فقد نشرت في بحورهم شراعها، وألقت عليهم رياحها، فطابت بها صدورهم.
والكلمة الخبيثة بعكس ذلك، تمجها الآذان، ويظلم منها الوجدان، وتورد النيران، وتفرق الإخوان، كم أغلقت باباً، ووضعت حجاباً، وقطعت أسباباً، وفرقت أحباباً، وأسخطت الخالق، وأوردت المهالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)[ رواه البخاري ].
والكلمة الخبيثة كشجرة خبيثة، قريبة جذورها، قصيرة فروعها، مُرة ثمارُها، قد بلغ بها السُّوسُ كلَّ مبلغ؛ فلا تنتفع برِي ولا سَماد، كالوتد والحجر لا حياة فيهما؛ رآها صاحب البستان على ذلك الحال فاجتثها فهوت في النار تستعر، قال الله تعالى في شانها: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ﴾ [إبراهيم: 26].
وعوداً إلى الكلمة الطيبة مبدأ الحديث، فقد حدث أن وجّه لنا الأخُ الشريف المقيم بالجزيرة من أقاليم السودان، دعوةً بمناسبة زواج أخيه، فبلغتنا وقد اكتنفها الخطأ، فأخلفنا موعده بغير ملكنا، وجئنا تالي يوم السعد، فما إن رآنا حتى هش وبش، وأقبل علينا مرحبا، ولم يلبث أن جاء بكبش حنيذ فقربه إلى ضيوفه، وعبارات الترحيب تنبعث من لسانه فيفوح أريجها معطراً القرية الخضراء.
وأكثرَ أخونا الشريف من الأسف إذ لم نحضر يوم الفرح لخطأ مُبلِغنا، فكانت إجابتنا الدعوة قضاء لا أداء، فمازحه أحدُنا قائلاً: حق لك الأسف فالخرفان ليست رخيصة هذه الأيام، يعني بهذا أن أسف الشريف على ذبيحته لا على تأخرنا عن العرس، فلم يشرق الشريف بهذا المزاح الثقيل، وأجاب بتلقائية قائلاً: لو أتيتم يوم العرس فالذيبحة الخاصة بكم واجب عليّ، وإنما أردت أن يراكم المدعوون ليعرفوا بأي صحبةٍ صالحة أنعَم.
لقد لامست عباراتُه تلك وجدانَ كل واحد منا، وتقاصر أخونا المازح خجِلاً، ولم يجد كفارة لمزحته إلا عبارات ثناء ودعاء.
إن الشريف لم يكن شاعراً منطيقاً، ولا خطيباً بليغاً، ولم ينل تعليماً نظامياً متقدماً، لكنه لم يُحرم إحساساً مرهفاً، وتعاملاً راقياً، ومنطقاً حسناً، وقد يُحرم ذلك أربابُ الشهادات ومرتادو الجامعات.
ولم أكد أسمع تلك العبارة - التي تحاكي النسيم رقةً - حتى وجدت لساني قد أتى على خبر نعيم بن عبد الله النحام، القرشي العدَوِي، وإنما سمى النحام لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دخلتُ الجنة فسمعت نَحمَةً من نعيم فيها، والنحمة السّعلة، وقيل النَّحنَحة، فسمي النحام بذلك، كان قديم الإسلام يقال: إنه أسلم بعد عشرة أنفس قبل إسلام عمر، وكان يكتم إسلامه ومنعه قومه لشرفه فيهم من الهجرة؛ لأنه كان ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم ويمونهم فقالوا: أقِم عندنا على أيّ دينٍ شِئتَ وأقم في ربعك واكفِنا ما أنت كافٍ من أمور أهلنا، فوالله لا يتعرض أحدٌ إليك إلا ذهبَت أنفسنا جميعاً [ الاستيعاب 1/ 476 ].
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما قدم عليه: "قومك يا نعيم كانوا خيرا لك من قومي لي"، قال: بل قومك خير يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قومي أخرجوني وأقرك قومك... فقال نعيم: يا رسول الله قومك أخرجوك إلى الهجرة، وقومي حبسوني عنها" [ الاستيعاب 1/ 476 ].
لقد كانت الكلمة الطيبة التي خرجت من شفتي هذا الصحابي غاية في الأدب واللباقة، وكان رده الموفَّق عنواناً على حسن سمته، ودماثة خلقه، وجميل خصاله، ومما علم أن التشبه بالصلاح فلاح، فليتنا نقتدي به ".
« مروان محمد أبو بكر »