• عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَىٰ عَبْدُ اللّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ الله مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ».
وفي رواية: « أَدْخَلَهُ الله الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ»
• عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّهِ. حَرَّمَ الله عَلَيْهِ النَّارَ». رواه مسلم.
أولا: ترجمة راوي الحديث:
هو عُبادة "بضم العين" بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي، أبو الوليد، شهد بدراً وما بعدها، وشهد العقبة الأولى والثانية، واستعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعض الصدقات، وكان يعلم أهل الصفة القرآن، ولما فتح المسلمون الشام أرسله عمر بن الخطاب وأرسل معه معاذ بن جبل وأبا الدرداء، ليعلموا الناس القرآن بالشام ويفقهوهم في الدين، فأقام عبادة في فلسطين وكان أول من تولى القضاء فيها، ومات في الرحلة في فلسطين سنة أربع وثلاثين - رضي الله عنه -وأرضاه. [انظر أسد الغابة (3/ 160) وسير أعلام النبلاء (2/ 5)، والإصابة (5/ 322)].
ثانيا: تخريج الحديثين:
أما حديث عبادة الأول، فأخرجه مسلم حديث (28)، وأخرجه البخاري في "كتاب الأنبياء" "باب (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق)" حديث (3435).
وأما حديث عبادة الثاني، فأخرجه مسلم حديث (29)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه الترمذي في "كتاب الإيمان" "باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله" حديث (2638).
ثالثا: شرح ألفاظ الحديثين:
(مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله): لفظ البخاري:"من شهد أَن لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله..." الحديث.
﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ﴾: هذا التعبير جاء في القرآن أيضا حيث قال تعالى: ﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء:171]، واخْتُلف في سبب تسمية عيسى عليه السلام (كلمة الله) على أقوال أشهرها قولان:
قيل: لأن الملك جاء أمه بكلمة البشارة به بعد أمر الله تعالى به ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ﴾.
وقيل: لأن عيسى تكون بكلمة الله (كن)، بل هو بكلمة الله تعالى ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ﴾ [آل عمران: 59]. والقول الثاني هو الأظهر والله أعلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولكن المعنى من قول الله جل ثناؤه: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ﴾ فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له (كن) فكان عيسى صلى الله عليه وسلم بكن". [انظر درء تعارض العقل و النقل (4/ 9)].
(وَرُوحٌ مِنْهُ): أيضا اخْتُلف في معناها على أقوال أشهرها قولان:
قيل: لأنه سبحانه وتعالى خلق فيه الروح من غير واسطة أب.
وقيل: لأنه روح مخلوقة من عند الله تعالى كسائر الأرواح.
(وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ): أي اعتقد ثبوتهما حقيقة لا شك فيهما، وأن الجنة أعدت للمؤمنين، والنار أعدت للكافرين.
رابعا: من فوائد الحديثين:
الفائدة الأولى: الحديثان فيهما دلالة على أن من جاء بالشهادتين شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أدخله الله الجنة وحرمه الله على النار، ويقال في هذا الفضل العظيم ما قيل في الأحاديث السابقة في أن الموحد ينال هذا الفضل العظيم إن مات تائبا من الذنوب، أو كان صاحب ذنوب وكبائر لم يتب عنها ولكن بعد المؤاخذة عليها أو مغفرة الله تعالى له ينال هذا الفضل، وتقدم أن المرجئة اعتمدوا على مثل هذه النصوص دون غيرها فقالوا لا يضر مع الإيمان أي معصية، وتقدم أن هذه النصوص رد على الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة ويخلدون في النار.
الفائدة الثانية: حديث عبادة بن الصامت الأول حديث عظيم اشتمل على جملة من العقائد.
قال النووي: "هذا حديث عظيم الموقع، وهو أجمع أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه -صلى الله عليه وسلم- مع فيه ما يخرج عن جميع ملل الكفر، على اختلاف عقائدهم وتباعدها". [انظر شرح النووي لمسلم حديث (28)].
ولبيان وتفصيل كلام النووي في العقائد التي اشتمل عليها حديث الباب يقال ما يلي:
أولاً: (مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُه) فقد جاء بكلمة التوحيد التي يكون بها داخلا للإسلام.
ثانياً: (وَأَنَّ عِيسَىٰ عَبْدُ اللّهِ) فيه رد على النصارى الذين يقولون" إن عيسى (ابن الله) لأن مريم لم تتزوج فجاءها هذا الولد الذي يتكلم في المهد ويأتي بالمعجزات والآيات فيحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وغير ذلك فهو ابن الله".
ثالثاً: (وَأَنَّ عِيسَىٰ عَبْدُ اللّهِ) فيه رد على النصارى أيضا من وجه آخر يقولون بأن عيسى مع كونه (ابن الله) فهو أيضا إله لأن عيسى (كلمة الله و روح منه) فهو بعض الرب تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فقولنا (عبد الله) يرد على معتقدهم الباطل، وتقدم معنى (روح منه) وأنه روح مخلوقة من عند الله كسائر الأرواح.
رابعاً: (وَابْنُ أَمَتِهِ) فيه ردٌّ على النصارى أيضا الذين يقولون بأن أم عيسى مريم زوجة الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فقوله: (وَأَنَّ عِيسَىٰ عَبْدُ اللّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ) رد على النصارى وعقيدتهم الباطلة عقيدة التثليث التي هي أهم عقائدهم، فهم يزعمون أن الله عندهم ثالث ثلاثة آلهة تسمى (الأقانيم):
الأول: الإله الأب وله خصائص الألوهية وهو الله تعالى.
الثاني: الإله الابن وله خصائص البشرية وهو عيسى.
الثالث: الإله الروح القدس، وهي الروح التي حلت في مريم، فأصبحوا ثلاثة الله وعيسى وأمه بما فيها من روح، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ولذا كذبهم الله تعالى وبين أن هذا من الغلو في عيسى فقال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ﴾ [النساء: 171] وبين كفرهم فقال: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 73].
خامساً: جاء في رواية البخاري (وَأَنَّ عِيسَىٰ عَبْدُ اللّهِ ورسوله) فقوله (ورسوله) فيه رد على اليهود الذين قدحوا في عيسى عليه السلام فقالوا هو ابن زنا والعياذ بالله، زنى بها يوسف النجار فجاءت بعيسى، فأنزلوا عيسى عليه السلام من مستوى المؤمنين الصالحين وفي قوله (ورسوله) رد عليهم، فالمسلمون وسط بين غلو النصارى في عيسى حيث جعلوا له مرتبة الألوهية، وبين إفراط اليهود فيه حيث طعنوا فيه و في أمه بنسبة الزنا، فمن جاء بالشهادتين وأن عيسى عبد الله ورسوله فقد برئ من كل دين يخالف الإسلام، بكلمة التوحيد برئ من ديانة كل من يعبد غير الله تعالى، وفي قوله (عِيسَىٰ عَبْدُ اللّهِ ورسوله) براءة من ديانة اليهود والنصارى على وجه الخصوص.
سادساً: (وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ) فيهما اعتقاد وثبوت الجنة والنار حقيقة بلا شك كما تقدم.
سابعا: (أَدْخَلَهُ الله مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ) فيه رد على الخوارج الذين يكفرون صاحب الكبيرة ويخلدونه في النار، وتقدم بيان ذلك.
الفائدة الثالثة: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرواية الثانية "أدخله الله الجنة على ما كان من عمل" فيه بيان أنه لابد أن يكون للإنسان عمل، و فيه رد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد صاحب الكبيرة في النار، وفي هذه الرواية بيان فضل من جاء بهذه الكلمات التي في حديث الباب، وظاهر الحديث أنه يدخل الجنة على ماكان من عمل سواء كان عمله صالحاً أو سيئاً، وذلك إما بمغفرة الله تعالى سيئاته بسبب هذه الكلمات، أو يمتن الله عليه بالمغفرة والعفو ثم يدخل الجنة، أو بعد أن يؤاخذه بالكبائر كما تقدم بيان ذلك والله أعلم.
الشيخ : د. عبد الله بن حمود فريح
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم ( كتاب الإيمان )