" الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
خَلَقَ اللهُ تعالى بني آدم كأبيهم؛ كما في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ» صحيح - رواه الترمذي. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا؛ لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» روا مسلم.
ولو كان أحٌد يستغني عن الاستغفار لاستغنى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، القائل: «وَاللَّهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ؛ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» رواه البخاري. قال تعالى: ﴿ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 25] " والأوَّاب: هو الرَّجَّاع إلى الله تعالى في جميع الأوقات، فَمَن اطَّلع اللهُ على قلبه، وعَلِمَ أنه ليس فيه إلاَّ الإنابة إليه، ومَحبَّته، ومَحبَّة ما يُقرِّب إليه؛ فإنه - وإِنْ جرى منه في بعض الأوقات ما هو مُقتضى الطبائع البشرية - فإنَّ الله تعالى يعفو عنه، ويغفر له الأمورَ العارِضَة غيرَ المُستقِرَّة ". [ انظر: تفسير السعدي، (ص 456) ].
والذنوب سبب سخط الله تعالى؛ كما قال سبحانه: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ [الزخرف: 55]، والاستغفار يرفع سخطَ الله سبحانه، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33]، فالتملُّق لله تعالى والاستغفار له هو الموجب لرفع آثار الذنوب.
ومَنْ أراد كثرةَ الرزق، وتفريجَ الكربات فليكثر الاستغفار، قال الله تعالى عن نوح - عليه السلام -: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا *وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10-12].
ولا يُخلِّص العبدَ من ضيق الذنوب عليه وإحاطتها به؛ إلاَّ التوبةُ والعملُ الصالح، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ؛ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ أُخْرَى، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الأَرْضِ» حسن - رواه أحمد في "المسند".
وربُّنا رحيمٌ ودود يتحبَّب ويتودَّد إلى عباده أن يتوبوا إليه، قال شعيب - عليه السلام - حاثًّا قومَه على التوبة: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾ [هود: 90]. " قال قتادة - رحمه الله -: (إِنَّ هَذَا القرآنَ يَدُلُّكم على دائكم ودوائكم، فأمَّا داؤكم: فالذنوب والخطايا، وأمَّا دواؤكم: فالاستغفار) ". [ تفسير ابن أبي حاتم، (5/150) ].
وينبغي أنْ يتحفَّظ المسلمُ من الذنوب ابتداءً، وإذا ألَمَّ بشيء من الذنوب؛ فإنه يكون وسطاً؛ وَجِلاً من ذنوبه، وأيضاً غيرَ قانطٍ من رحمة الله تعالى، قال الله تعالى - مُحَذِّراً عِبادَه من القنوط: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، " قال الشوكاني - رحمه الله -: (هذه الآية أرجى آيةٍ في كتاب الله سبحانه؛ لاشتمالها على أعظم بشارةٍ، فإنه أوَّلاً أضافَ العبادَ إلى نفسِه لِقَصْدِ تشريفِهم ومَزِيدِ تبشيرهم، ثم وصَفَهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب، ثم عقَّبَ ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المُسْتَكثِرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمُذنبين غيرِ المسرفين من باب الأَولى... فيا لها من بِشارَةٍ ترتاح لها قلوبُ المؤمنين المُحسِنين ظنَّهم بربِّهم، الصادقين في رجائه ) ". [ فتح القدير، (4/667) ].
والإصرار على الذنوب من صفات الكفار، الذين قال الله تعالى في شأنهم: ﴿ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 46]، (أي: وكانوا يَفْعَلون الذنوبَ الكِبارَ ولا يتوبون منها، ولا يندمون عليها؛ بل يُصِرُّون على ما يُسخِطُ مولاهم، فقَدِموا عليه بأوزارٍ كثيرةٍ غيرِ مغفورة). [ تفسير السعدي، (ص 834) ].
" وأمَّا المؤمنون؛ فإنهم إنْ صَدَرتْ منهم أعمال سيئة، بادَروا إلى التوبة والاستغفار، وهم يعلمون ضَرَرَ الإصرار، ونَفْعَ الاستغفار، ويعلمون أيضاً أنَّ لهم ربًّا يغفر الذنوب، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]. فَسَألوه المغفرةَ لذنوبهم، والسَّتْرَ لعيوبهم ". [ انظر: المصدر نفسه، (ص 148) ].
وقد وَعَدَ اللهُ التائبين بمغفرة ذنوبهم؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم - فيما يحكيه عن ربِّه تبارك وتعالى: «يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي؛ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي؛ غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» صحيح - رواه الترمذي.
......
الحمد لله... عبادَ الله.. من التَّعرُّض لرحمة الله تعالى؛ إزالة آثار الذنوب، وقد دلَّنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال: «أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟». قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ» رواه مسلم. وقال أيضاً: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ». قَالُوا: لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا. قَالَ: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا» رواه البخاري.
إخوتي الكرام.. نحن في وقت المُهلة، فلنبادر إلى التوبة، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 17]. قال أبو سليمان الداراني - رحمه الله -: (إذا ذَكَرتُ الخطيئةَ لم أشْتَهِ الموتَ، أقولُ: أبقى لَعَلِّي أتوب) [ التوبة، لابن أبي الدنيا (ص 28)، (رقم 68) ].
فالعاقل: هو الذي لا يُصبح ولا يُمسي إلاَّ على عمل يُحِبُّ لقاءَ الله عز وجل عليه، والمُفَرِّط: هو المُسَوِّف بالتوبة من اليوم إلى غد، ومن غدٍ إلى بعد غد.
ومن الأمور المُعينة على الاستيقاظ من الغفلة؛ أنْ يستحضر المرء بأنَّ الشيطان توعَّد بني آدم بالإغواء: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 14-16]. وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].
والشيطان نفسُه توعَّد بني آدم بالإغواء؛ كما جاء في الحديث: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ! لاَ أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ، مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. قَالَ الرَّبُّ عزَّ وجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، لاَ أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي» حسن - رواه أحمد في "المسند".
عباد الله.. إنَّ آفات الذنوب خطيرة، ومعرفتها عَونٌ على الإقلاع منها ومُحاذرتِها، قال مالك بن دينار - رحمه الله -: (إنَّ لله عقوبات في القلوب والأبدان: ضَنْكٌ في المعيشة، ووَهْنٌ في العبادة، وما ضُرِبَ العبدُ بعقوبة أعظم من قسوة القلوب) [ حلية الأولياء، (6 /287) ].
وقال ابن خَيْرَة - وهو من أصحاب عليٍّ - رضي الله عنه -: (جزاء المعصية: الوَهْنُ في العبادة، والضِّيق في المعيشة، والتَّعسُّر في اللذة، قيل: وما التعسر في اللذة؟ قال: لا يُصادِفُ لذةً حلالاً إلاَّ جاءه مَنْ يُنغِصَّه إياها) [ تفسير ابن كثير، (11 /275) ].
والذنوب تُورث قسوةً في القلوب، والقلبُ القاسي قَلَّ خيرُه، ولم يُخبِتْ لربِّه إلاَّ أنْ يُوفِّقه الله تعالى للتوبة، قال ابن عثيمين - رحمه الله -: (إنَّ المعاصي بريد الكفر، فالإنسان إذا فَعَلَ معصيةً استهان بها، ثم يستهين بالثانية، والثالثة... وهكذا حتى يصل إلى الكفر، فإذا تراكمت الذنوب على القلوب حالت بينها وبين الهدى والنور؛ كما قال تعالى: ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]) [ تفسير سورة البقرة، (1 /214) ].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ".
« د. محمود بن أحمد الدوسري »
« يوم الجمعة : 13 جمادى الأخرى 1441ه - 07 فبراير 2020م »