( كيف نتعامل مع الفتن؟ )
المقدمة:
الحمد لله الذي أمَرَنا بالاعتصام بحبله المتين، وحذَّرنا من الفُرقة والفتن ما ظهر منها وما بطن، والصلاة والسلام على مَن فصَّل لنا الأصول تفصيلًا، محمد بن عبدالله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه وكل مَن سار على دربهم إلى يوم الدين، وبعد:
فلَمَّا توالت الفتن واحدةً تلو الأخرى، واختلط الحابل بالنابل، وذابَت الشبهات في الشهوات، والطالح في الصالح، حتى تمنى المؤمن المخلِص أن يكون تحت الثرى، خيرًا له مِن فوقها - بادرت باصطفاء هذا العنوان (كيف نتعامل مع الفتن؟)؛ عسى أن يكون سدًّا منيعًا للعالَم عامةً، وللمسلمين خاصة؛ لأن ((الدال على الخير كفاعله))؛ كما ورد في الحديث النبوي الشريف.
وقد حثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المبادرة والتزود بالأعمال الصالحات قبل حلول الفتن، بل حضور الموت أو مجيئه ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [الأنعام: 158]، وجاء في حديث ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بادِروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلِم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينَه بعَرَضٍ من الدنيا))؛ رواه مسلم.
أسأل الله أن يغيثنا بنفحات الفهم والحكمة؛ حتى تنتفع الأمةُ بما تسطره أيدينا؛ إنه وليُّ ذلك وقادر عليه، وهو على كل شيء قدير.
تعريف الفتنة لغةً واصطلاحًا:
الفتنة في اللغة: الاختبار، أو الابتلاء، أو الامتحان.
والفتنة تستخدم في سياقات أخرى؛ منها: الكفر، أو الشرك، أو الجنون، أو العذاب، أو الإزالة.
الفتنة في الاصطلاح: "هي ابتلاءٌ حلَّ على فرد أو مجتمع في أمور دينهم أو دنياهم".
الدليل في القرآن:
قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25].
وفي السُّنة النبوية:
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ من الفتنة دبرَ كل صلاة؛ فعن أم المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات)).
أقسام الفتنة:
والفتنة تنقسم إلى قسمين:
1 الدينية:
هي ابتلاءٌ من الله للمسلم خاصة دون الكافر، فيختبره بحلول المصيبة عليه مِن تلقاء نفسه أو عن طريق العدو، إن كان المسلم بقوله أو فعله موقنًا، فيزيده إيمانًا وشرفًا؛ ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].
وفي السنة النبوية:
عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراءُ شكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبَر، فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم.
2 الدنيوية:
هي ابتلاءٌ يحلُّ على الخلق؛ إما في أنفسهم، أو أهليهم، أو أموالهم، أو بلدانهم؛ كالخسف، أو الفيضانات، أو الطاعون، أو الحروب،أو الجنون.
مراتب الفتنة:
وقد قسمت مراتب الفتن إلى مرتبتين:
1 - فتنة الخالق:
هي ابتلاء يحل بالخلق، فمتى ابتُلي المسلم كان مغفرة لذنوبه، وإذا أصابت الكافرَ كانت عقابًا عليه؛ ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
2 - فتنة الخلق:
وهي مصيبة تقع فيما بين الخلق، وقد تكون عن طريق القتل، أو السِّحر، أو المرض، أو الغصب، أو الحريق، أو اشتعال نيران بين شخصين، أو الأهل، أو الدول.
وهي مقسمة إلى ثلاثة أقسام:
أ - فتنة الناس فيما بينهم:
الفتن التي تقع بين الناس كثيرة؛ منها الخصومات، ونفي المرء عن وطنه، أو حبسه في السجن؛ كما فُعل بسيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام.
ب - فتنة شياطين الجن للإنس:
وهي تسليط شياطين الجنِّ على البشر عن طريق المس؛ من حيث التخويف، أو الإصابة بالجنون، أو المرض، ويحدُثُ ذلك لدى النسوة أكثر.
ج - فتنة الناس للبهائم:
وهي تكليف البهيمة بما لا تطيق، أو عدم إطعامها، أو تعذيبها.
أصناف الفتنة:
1 - القولية:
هي التلفظ بالكلمة السيئة التي تؤدي إلى شجار أو حروب.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد لَيتكلمُ بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلمُ بالكلمة من سخطِ الله لا يُلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم))؛ رواه البخاري.
2 - الفعلية:
كل فعل يؤدي إلى معصية فهو فتنة.
أنواع الفتنة: كثرت الفتن بين الناس حتى لا نكاد نحصرها، فقمت بجمع أهمها أو بعضها.
1 - فتنة عدم التوحيد: هي إباء الكافر وحدانية الله، أو الابتداعُ في الدين، أو الشرك بالله، وتلك الفتنة من أشد أنواع الفتن؛ قال تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 191].
2 - فتنة العدو:
هي بُغض الإنسان بدون ذنب، فيؤذيه بالضرب، أو السَّجْن، أو نهب الأموال، أو إتلافها، أو قذف المرء البريء، أو التجسس على أموره الخاصة، أو الشتم، أو الفضح؛ ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58].
3 - فتنة المال: وتكون في جميع ما يَملِكُه الإنسانُ من الأموال، سواء من الذهب، أو الفضة، أو الحرث، أو البهائم؛ يقول الله تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
4 - فتنة الأهل:
وفتنة الأهل تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ - فتنة النفس: وتلك تصيب المرء نفسه؛ كما حصل لسيدنا أيوب عليه الصلاة والسلام في مرضه، فصبَر فأثنى الله عليه؛ قال تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84].
ب - فتنة الولد: وقد يُبتلى المرء في ولده؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التغابن: 15]، ولنا في قصة نوح عليه الصلاة والسلام كفاية من العبرة.
ج - فتنة الزوجة: وتكون في الزوجة أيضًا، وقد ابتُلِي نوحٌ ولوط عليهما الصلاة والسلام بزوجتَيْهما الكافرتَينِ؛ قال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: 10].
5 - فتنة القومية: وهي تكون بين قبيلتين، أو قريتين، أو دولتين، وقد حدثَتْ حروبٌ دامية بين الأَوْس والخَزْرج في الجاهلية، واستمرت قرابةَ مائة وأربعين سنةً، ولم تنتهِ إلا بعد بزوغ نور الإسلام وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب، فشرَح الله صدورَهم للإسلام، وهداهم إليه، وألَّف به بين قلوبهم، بعد أن كانوا أعداءً، فقد بدأت سلسلةُ حروبهم بحرب سمير، وانتهت بحرب بُعاث، التي وقعت قبل الهجرة بخمس سنوات، وهي أشهرُ وأشد ضراوة، وأكثر دموية من كل المعارك التي خاض غمارها اليثربيُّون بعضهم ضد بعضٍ.
وقد امتنَّ الله عليهم بهذا التأليف بين قلوبهم؛ فقال: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103].
6 - فتنة الشهوات: هي ابتلاء المرء بحب المال، وشهوة الفرج والبطن، والولوع بزينة الحياة الدنيا، وبالرقص، واستماع الموسيقا، والملاكمة، والكرة، وغير ذلك، حتى صدَّه عن ذكر الله وعن الصلاة.
7 - فتنة الشبهات: هي اختلاط بين أمرين متقاربين تعمدًا لنشر الفتن في أمور الدين أو الدنيا.
8 - فتنة الصالحين: بقدر إيمان العبد يُبتلى في دينه؛ فالأنبياء قُتلوا، وجُرحوا، وسُجنوا، وقُذفوا، وسُخِر منهم، وطُردوا من ديارهم بغير حق، وكذلك كل مَن سلك نهجهم من العلماء والدعاة، عليهم أن يجعلوا ذلك نصبَ أعينِهم؛ إذ لا يأتي أحد بمثل ما أتى به الأنبياء إلا أوذي في الله.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه المروي في الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، حيث قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقةٌ ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة))؛ صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وسائل إشعال نار الفتنة:
إن القائم بإشعال الفتنة لا بد أن يكون له وسائل؛ ومن تلك الوسائل: اللسان، واليد، والتقنيات الحديثة.
1 - اللسان:
فاللسان سلاح ذو حدين؛ فهو خير سلاح ووسيلة متى استُخدم للإصلاح والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وشر سلاح فوق الأرض وأخطر وسيلة لإفساد الأمة.
2 - اليد:
ومِن وسائل الفتنة اليدُ التي تستعمل في كتابة الكتب والرسائل النمامة، أو الجاسوسية، لنشر الفتنة، وفي صنع السلاح الذي يعتبر أجود وقود للفتنة.
3 - التقنيات الحديثة:
ومن وسائل نشر الفتن التقنيات الحديثة، التي جعلت العالم قريةً كونية صغيرة، وأصبحت الأشياء البعيدة قريبة، والمحجوبة مكشوفة، وكاد ضررُها يكون أكثر من نفعها؛ كالإذاعات، والتلفاز، والإنترنت وما فيها.
أسباب الفتنة:
نودُّ ذكرَ بعض الأسباب التي أدَّت إلى شِقاق بين أشخاص، أو حروب بين قبيلتين أو دولتين، دينية كانت أو سياسية أو عنصرية، حتى وإن لم نستطع الإحاطة بالكل؛ إذ ما لا يُدرك كله لا يُترك جله.
1 - الجهل:
فالجهل أساس الداء، وعدو الإنسان اللدود؛ لأن الإنسان لو كان يعلم علمَ اليقين خطورةَ الفتن؛ من حيث إراقة الدماء، وانشقاق صفوف الناس، وعقوبتها في الدنيا والآخرة - لَمَا تجرأ بافتتان أحد أو إيقاظها، والعالم بحقيقة الفتنة تراه دائمًا محذرًا.
يقول أحد العلماء: "إذا أقبلت الفتنة لم يرَها سوى العلماء، ومتى أدبرت أفاقت الجهلة".
2 - التعمد:
هناك أشخاص همهم تشتيت الجماعات المعتصمة، لأغراض دنيوية، وتفريق الأمة الإسلامية بأيدي أعداء الإسلام، وقد يكون هذا العدو من المسلمين أنفسهم، الذين باعوا دينهم بحطام الدنيا، وقد يكون من الكفار الذين ما وَهَنوا يومًا ولا ضيَّعوا دقيقة في إطفاء نور الإسلام.
3 - النفاق:
هم من شرار الناس الذين لا قيمةَ لهم عند الله وعند الناس، تراهم دائمًا يجوسون خلال الديار لإشعال نار الفتن، ويحاولون القضاء على كل ما يرونه من مصلحة للأمة الإسلامية، متستِّرين بإسلامهم الزائف.
4 - اتِّباع المتشابه:
صفات المفسدين في الأرض من المستشرقين، أو من ضعاف الإيمان، أو الذين يتفقهون في دين الله تفقهًا سطحيًّا، يمازجون بين الصحيح والضعيف، أو بين الناسخ والمنسوخ؛ ابتغاء الفتنة فقط؛ لذا ذمهم الله تعالى في كتابه العزيز، قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7].
5 - حب الرياسة:
وهذا يحدث غالبًا في مجال السياسية عند الأحزاب في الانتخابات الرئاسية، أو البرلمانية، أو البلدية، أو ما شابه ذلك؛ بُغيَةَ الحصول على المناصب في الدولة فتقطع الأرحام، ويهين بعضهم بعضًا، فيَعِز الذليل ويهان العزيز، وتُنتهك الأعراض بغير حق.
6 - التشدد:
إن الماء بليونته استطاع أن يشق الحجر مع شدته، فقلوبُ الناس لا تُملك بغلظة الأقوال والأفعال؛ وإنما بلين الألفاظ والمعاملة الحسنة، ففرعون مع كفره، أمر الله سبحانه وتعالى سيدنا موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام باللين معه، وتجنب الشدة والقسوة.
من الأحاديث الواردة في ذم التنطع ما جاء عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلَك المتنطعون))، قالها ثلاثًا"؛ رواه مسلم.
7 - الحسد:
فالحاسد لا يرتاح حتى يجدَ مراده من المحسود، فيتمنَّى فضحه، أو قتله، أو نشر زلات المحسود، ولا يرجو له خيرًا؛ فيَسُد جميع أبواب الخير التي تؤدي إلى نجاح المحسود إن استطاع.
8 - الطمع:
فالطمع المذموم صفة خسيسة من صفات أراذل الناس، والطامع قلبه ولسانه هو المال؛ لذا تراه كلما جمعته مشكلةٌ مالية مع الآخرين قام بقذف الأبرياء وشتمهم، أو اتهامهم بما لا علاقة لهم به.
9 - التذكير بالأخطاء الماضية:
فالعدو اليائس كلما عجَز عن هزم خصمه المخلص الصابر، قام باختراع أكاذيب من تلقاء نفسه، أو بتذكيره بالأخطاء الماضية التي تاب عنها، ولم يدرِ أن ((الإسلام يَجُبُّ ما قبله))، وأن ((التائب مِن الذنب كمَن ذنب له))، ولنا خير مثال لذلك في قصة موسى عليه الصلاة والسلام؛ حيث قال تعالى عن فرعون:
﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 18 - 22].
10 - الشتم أو الطعن في الأنساب:
فالشتم والطعن بأنساب الناس صفتانِ من صفات البلداء، الذين لا قيمة لهم في المجتمع؛ إذ هما يُحدِثانِ جروحًا عميقة في النفوس، قلما ينسى منها التاريخ شيئًا، أو تشفى منها القلوب، فالقرآن حذرنا منهما، وكذا السُّنة النبوية؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات:11، 12].
وفي السُّنة: روي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء)).
11 - الاحتقار: وسبب ذلك غالبًا يأتي من العنصرية والتعصب والقبلية.
آثارُ الفتنة السيئةُ:
فالفتنة آثارها وخيمة؛ إذ لا يعلم عواقبَها إلا اللهُ سبحانه وتعالى، فكم من دماء سُفِكت، وبيوت هدمت، وأناس شُردوا، وأموال نُهِبت، وأرحام قُطِّعت، وعلومٌ ضُيِّعت، وأمنٍ فُقِد، وعقول جُنَّت، وأعضاء شلت أو قطعت بسببها، ويوم تقوم الساعة يلقى الفتَّانون من أشد العذاب.
طرق الوقاية من الفتنة:
ما دام لكل داء دواء إلا الموت، أحببت أن أختار عدة عناصر قد تؤدي إن شاء الله إلى علاج الفتن.
1 - الصبر: ما رأيت حليةً تحلَّى بها المرء في حياته بعد الإيمان أجمل من الصبر، وما رأيت إنسانًا أعز من الصابر؛ لذا ادخر الله تعالى للصابرين أجرًا في الآخرة غير محسوب؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
2 - التأني: يقال: إن في التأني السلامةَ، وفي العجلة الندامة؛ فأثناء الفتن هناك مَن ينتهزون الفرص ويتكلمون في الناس وفي أعراضهم بما لا علم لهم به، معتمدين في ذلك على الشائعات فقط؛ لذلك يأمرنا القرآن الكريم بالتبيُّن والتثبت في الأخبار التي تصلنا عن الناس أثناء الفتن، وإلا ندِمنا في أقوالنا وأفعالنا حيث لا ينفع الندم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].
3 - العفو والصفح: إن الله سبحانه وتعالى ما أمر بالقِصاص في الحدود أو المظالم التي تقع بين الناس، إلا وأعقبه بالعفو أو الصفح أو إصلاح ذات البَيْن؛ إذ هو الدواء الذي يجلب المحبةَ والرحمة والأخوَّة إلى القلوب؛ قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].
4 - التمسك بالكتاب والسُّنة: إن أفضل شفاء لعلاج الفتنة وطردها، هو التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهي كتاب الله وسُنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم؛ فالتمسُّك والعمل بهما خير سلاح للقضاء على الفتنة بين أفراد الأمة الإسلامية.
5 - اتِّباع الآيات المحكَمات:
اتِّباع الآيات المحكمات التي فصلها لنا القرآن الكريم نفسه، أو فسرها الرسول صلى الله عليه وسلم تفسيرًا في سُنته الطاهرة؛ لأن فهم الآيات المتشابهة لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن باب الأحوط والأسلم أن يتنحى المرء عن الجدال والخروج عن ميدان الزائغين؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7].
6 - اتِّباع العلماء والأمراء:
فالعلماء والأمراء توءمانِ في دين الله؛ إذِ العالِم هو حارس النصوص الشرعية، والأمراء هم حرَّاس الأمة الإسلامية، فالعالم يفتي بحكم الله في الوقائع ويُبين، ثم يأتي الأمير فيُنفِّذ فتوى العالم بسلطته الدنيوية، وهذا هو المنهج القرآني الذي أشار إليه القرآن في الآيات التالية:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
7 - الحرص على الجماعة:
فالقوة بيد الله يؤتيها مَن يشاء، وقد أمرنا بالتماسك وأن نكون مع الجماعة؛ إذ القوة في الجماعة، وهي الحصن المنيع، كما أن الفتنة في الفرقة والتعصب والعنصرية، وفي صحيح مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((مَن خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومَن قُتِل تحت راية عميَّة يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية فقُتل، فقتلةٌ جاهلية، ومَن خرج على أمتي يضرب برَّها وفاجرَها، ولا يتحاشى مِن مؤمنها، ولا يفي بعهد ذي عهدها، فليس مني ولستُ منه)).
8 - محاربة المفسدين:
فالمفسدون في الأرض واجب محاربتهم، وبأي طريق كان أو أسلوب، سواء عن طريق النفي من الأرض، أو الحبس، أو القتل؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33].
الوصية:
فإني لم أرَ شيئًا فقَدَه المرء أو المجتمع في حياتهم أغلى من الأمن والاستقرار، ولم أرَ مصيبة أشد من الفتنة، فبها هلاك الصالح والطالح، فلنَقِفْ أمام المفسدين بجميع ما نملكُه من الإمكانات والوسائل؛ لأن ذلك من الإيمان.
وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
[ الشيخ : عبد الإله أبو الخير ]