المصحف المرتل

خطبة التحذير من المسكرات والمخدرات

 


الخطبة الأولى


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. 


﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].


﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].


﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]. 


أما بعد أيّها المسلمون: فحديثنا اليومَ عن آفة خطيرة، وفتنة مستطيرة، وبليّة عظيمة، تفسد الدينَ، وتفني المال، وتهدم الخُلُق، وتُمرض البدن. 


إنها آفة المخدّرات والمسكرات بأنواعها، فهي أمّ الخبائث، ومجمع المصائب، فكم أغوتْ من إنسان، وهدمتْ من بيت، ويتّمت من أولاد، وأرملت من نساء، وأسفرت عن جريمة، وأهلكت من مال، وضيّعت من عيال. 


ولذلك جاءت الشريعةُ الإسلامية الحكيمة بتحريمها والتحذير منها وعقوبةِ متعاطيها، بل جعلتها من كبائر الذنوب وحبائل الشيطان. 


يقول الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة:90، 91].. 


ففي هاتين الآيتين الكريمتين ينادي الربُّ الرحيمُ سبحانه وتعالى عباده المؤمنين مبيناً لهم قبحَ هذه الأمور الأربعة: الخمرِ والميسر والأنصاب والأزلام، مخبراً عن مفاسدها العظيمة فهي رجسٌ نجس من تسويل الشيطان وتزيينه، وهي كذلك سبب للغفلة عن ذكر الله وتضييع الصلوات وارتكاب الفواحش والمنكرات، وسبيل إلى حدوث البغضاء بين الناس والعداوات، ثم يأمر سبحانه باجتنابها وأن ذلك سبب للفوز في الدنيا والآخرة. 


وفي ختام الآيتين يؤكد سبحانه النهي عنها ويحضّ عباده على تركها بأبلغ أسلوب: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91]؟ ولاشك أن كل عاقل ناصح لنفسه سيبادر إلى الانتهاء عنها بعد سماع هذا النداء الكريم، ومعرفة هذه المفاسد العظيمة لها. 


وقد رَوى أحمدُ وأهل السنن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قُرئت عليه هذه الآية قال: انتهينا.


هكذا كانت استجابتهم رضي الله عنهم لأمر الله تعالى. 


عباد الله: الخمرُ: كلّ ما خَامر العقل أي غطّاه، فَتَشمل كلَّ مسكر، مهما كان نوعه أو مصدره أو طريقة تناوله، قال صلى الله عليه وسلم: "كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ خمرٍ حرامٌ" رواه مسلم. 


ولا شك أن المخدّرات بأنواعها أخبثُ من الخمر وأشد ضرراً كما هو معلوم، ولذلك أجمع العلماء على تحريمها وإلحاقها بالمسكرات. 


والمسكرات أيها الإخوة مُذهبة للعقل، وإذا فقد الإنسانُ العقل أصبح كالبهيمة التي كرمّه الله عليها، بل اضلّ، حيث لا يميز بين الحسن والقبيح، والخير والشر، والنافع والضار، ولذك يعمل السكرانُ عملَ المجانين فيَهذي ويؤذي، ويعمل القبائح دون خوف أو حياء. 


قال الحسن البصري رحمه الله: "لو كان العقل يشتري لتغالي الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده". 


وقد ورد الوعيدُ الشديد لأصحاب المسكرات، فعن جابر رضي الله عنه أن النبي قال: "كلُّ مسكرٍ حرام، إنّ على الله عزّ وجلّ عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيَه من طينةِ الخبال"، قالوا: يا رسول الله، وما طينةُ الخبال؟ قال: "عَرقُ أهل النار" أو: "عصارة أهل النار" رواه مسلم. 


وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبيَّ قال: "كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ مسكرٍ حرامٌ، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يُدمنها لم يتُب لم يشربها في الآخرة" رواه مسلم. 


وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن اللهُ الخمر، وشاربها، وساقيها، ومبتاعها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه" أخرجه أحمد وأبوا داود بسند حسن.


وشارب الخمر كذلك مستحق للعقوبة الدنيوية، وهو أن يجلد الحدَّ كما ثبت في السنة. 


أيها المسلمون: إن للمسكرات والمخدرات أضراراً عظيمة ومفاسد عديدة وأثاراً خطيرة: دينيةً واجتماعية واقتصادية وأمنية وصحية، لا تخفى على مَن نظر إلى المُبتَلين بعين البصيرة، وعرف أحوالهم ولاسيما المدمنين منهم. 


فمن أضرارها الدينية :

الصدّ عن ذكر الله والصلوات، والعبادات، وارتكاب الفواحش، وفعل الموبقات كما في الآية السابقة. 


وقد أخرج النسائي وابن حبان في صحيحه، أن عثمان رضي الله عنه قام خطيبا فقال: " أيها الناس، اتقوا الخمر؛ فإنها أمُّ الخبائث، وإن رجلا ممن كان قبلكم من العباد، كان يختلف إلى المسجد، فلقيته امرأةُ سُوء، فأمرت جاريتها فأدخلته المنزل. فأغلقت الباب، وعندها باطيةٌ من خمر، وعندها صبي، فقالت له: لا تفارقني حتى تشرب كأسا من هذا الخمر، أو تواقعني، أو تقتل الصبي، وإلا صِحتُ، تعني: صرخت، وقلت: دخل علي في بيتي، فمن الذي يصدِّقك؟ فضعف الرجلُ عند ذلك وقال: أما الفاحشة فلا آتيها، وأما النفس فلا أقتلها، فشرب كأسا من الخمر. فقال: زيديني. فزادته، فوالله ما برح، حتى واقع المرأة وقتل الصبي"


قال عثمان رضي الله عنه: " فاجتنبوها، فإنها أم الخبائث، وإنه ـ والله ـ لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجل، إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر"


ومن أضرارها الاجتماعية :

حصول البغضاء والشحناء والتقاطع في البيوت والأسر، وحدوث الطلاق، فكم من بيوت تهدّمت وتشتت أطفالها بسببها، بل كانت سبباً لهتك الأعراض وبيع المحارم عافنا الله من ذلك. 


ومن أضرارها الاقتصادية :

تبذير الأموال وتبديد الثروات، حيث ينفق المدمن على المسكر كل ما يملك حتى أثاث بيته بل يلجأ إلى الاستدانة والسرقة من أجل ذلك، وهي كذلك سبب لإتلاف الممتلكات والأموال العامة، بالإضافة إلى ما تنفقه الدول في معالجة المدمنين. 


ومن أضرارها الأمنية :

حصول جرائم القتل وقطع الطريق، وترويع الآمنين، وكم قُتل من رجال مكافحة المخدرات وغيرهم بسبب هذه الآفة، بل وصلَ الحد ببعض مدمني المخدرات إلى قتل والديه أو أحدهما أو زوجته وأولاده كما حصل في وقائع كثيرة. 


ومن أضرارها الصحية :

حصول الأمراض المتنوعة الجسدية والنفسية، حتى إن بعض المدمنين يفقد عقله تماماً، كما هو مشاهد في المصحات النفسية ودور الرعاية، وهناك أنواع من المخدرات تحتوي على مواد خطيرة تتلف المخ والأعصاب. 


وقد كشفت دراسة غربية حديثة أن نحو مليونين و500 ألف شخص يموتون سنوياً في العالم بسبب الخمور، وأن عدد الوفيات بسبب الكحول يفوق عدد ضحايا مرض الإيدز والملاريا والسِّل. 


وتنجم الوفيات المتصلة بالخمور عن حوادث السير، وأمراض القلب، وداء السكري، بالإضافة إلى 200 مرض آخر متصل بشرب الكحول. 


ونظراً لأضرارها الكثيرة الخطيرة أطلق عليها بعض المعاصرين حرب المخدرات، خاصة أن لها شبكاتٍ عالمية وعصابات محترفة، كفانا الله شرورها. 


ومما يؤسف له أعدد مدمني المخدرات في البلاد العربية والإسلامية بازدياد كبير، وقد ذكر تقريرُ الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات أن نسبة المدمنين على المخدرات في العالم العربي تتراوح ما بين 7-10%، وأن معظم المدمنين من فئة الشباب. 


وأبناء هذه البلاد المباركة بصفة خاصة مُستهدفون من قِبل منظمات معادية تسعى لإيقاعهم في شباك المخدرات والمسكرات، لكي تهدم أديانهم وأخلاقهم، ولذلك نرى تلك الكميات الهائلة التي يكتشفها رجالُ الأمن وفقهم الله، ويُعلن عنها بين الفينة والأخرى. 


عباد الله محاربة هذه الآفة الخطيرة واجب عظيم ومسؤولية مشتركة يجب أن تتضافر الجهود للقضاء عليها وحماية المجتمع من غوائلها، وينبغي على كل واحد منا أن يقوم بدوره.


فعلى الوالدين التربية الصالحة للأبناء، وتحذيرهم من جلساء السوء, ومتابعتهم، ومراقبة سلوكهم.


وعلى المربّين في المدارس والجامعات والمساجد بيان حكمها والتوعية الرشيدة بأخطارها.


وعلى أجهزة الإعلام تقديم البرامج والتقارير المحذرة منها، واستضافة المختصين بعلاجها. 


وعلى أفراد المجتمع عموماً مناصحة مَن ابتلي بشيء منها والتعاون مع الجهات المسؤولة في معالجته، وهذا من التعاون على البر والتقوى، المأمور به بقوله سبحانه وتعالى : ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]. 


نفعنيَ الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد الأنبياء والمرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفورٌ الرحيم.


الخطبة الثانية


الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. 


أما بعد فإن خير الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بِدْعَةٌ، وكل بدعة ضلالة. 


عباد الله، جديرٌ بمن عَرف هذه الأضرارَ الكبيرة والآثار العظيمة للمسكرات والمخدرات في الدنيا والآخرة، أن يبتعد عنها أشدَ البعد ويَحذر منها غاية الحذر، ويُحذّرَ منها ويحاربها ما استطاع، طاعةً لله تعالى القائل سبحانه وتعالى ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91]، وقياماً بواجب النصيحة للمسلمين. 


أخي الشاب العزيز قد تكون بدايةُ هذا الطريق المظلم سيجارةَ دُخان أو حشيش، أو كأساً تجامل به رُفقاءَ السوء، أو زيارةً عابرة لأحد الحانات القذرة خارج البلاد، أو حَبّةً مسمومة تتناولها أيام الامتحانات لتقاوم النوم والفتور، أو جُرعةَ مخدّر تظنّ أنها ستخلصك من همومك وغمومك، ولا تدري أنها ستوصلك إلى مستنقع الإدمان الآسن ونهايته الأليمة، والسـَّعيد مَن وُعظ بغيره، فاعتبر بحال ومآل ملايين البشر من ضحايا المسكرات والمخدرات. 


لا تغتر - رعاك الله - بقول أصدقاء السوء: تذوّقْ أو جرّب، أو هذا غيرُ مضرٍّ، فما أسكر كثيره فقليلُه حرام، ومَن استهان بالشَّربة الأولى تجرأ على الثانية، ثم أضحى ألعوبةً بيد تجّار المخدرات وعصابات المهربين يبتزونه في ماله وعِرضه. 


ويامَن ابتُلي بمقارفة شيئ من المسكرات والمخدرات اتق الله في نفسك وتدارك عمرك قبل أن يذهب عقلك، أو تُلقى في غياهب السجون، أو تصاب بالأمراض المزمنة، أو تَلقى الله تعالى على هذه المعصية، فقد مات بعضُ المبتلَين بهذه الآفة وهم سكارى بتعرضهم لحوادث أو نوبات قلبية، وتوفي آخرون بسبب حقنة مخدر زائدة في الوريد، وبئست الخاتمة، نسأل الله العافية، وتقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنّ على الله عزّ وجلّ عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيَه من طينةِ الخبال"، قالوا: يا رسول الله، وما طينةُ الخبال؟ قال: "عرقُ أهل النار" أو: "عصارة أهل النار".


وعلى المدمنين وأوليائهم أن يسارعوا في زيارة الوحدات المختصة في معالجة المدمنين، وهي موجودة ولله الحمد في بعض المستشفيات تعالج بسرية تامة ومجانية. 


نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصم أبناء المسلمين كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً من المسكرات والمخدرات ويبعدهم عن مجالسها، ويكفيهم شرَّ مروجيها، وأن يمنّ على مَن ابتلي بها بالتوبة النصوح، والشفاء العاجل من أدرانها.


ألا وأكثروا - رحمكم الله - من الصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير...


[ الشيخ : د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله الحميضي ]

إرسال تعليق

0 تعليقات
* Por favor, não spam aqui. Todos os comentários são revisados ​​pelo administrador.