قوله: «إيتاء الزكاة»: إيتاء بمعنى إعطاء، وإتيان بمعنى مجيء، وأتى بمعنى جاء، وآتى بمعنى أعطى، فإيتاء الزكاة؛ يعني: إعطائها لمن عيَّن الله سبحانه أن يُعطَوا إياها.
والزكاة مأخوذة من الزكاء، وهو الطهارة والنماء؛ لأن المزكي يطهِّر نفسه من البخل، وينمِّي ماله بالزكاة، قال الله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103].
والزكاة تعريفها: نصيب مقدَّرٌ شرعًا من مال مخصوص لطائفة مخصوصة.
نصيب من مال، وليس كل المال، بل أموال معينه بيَّنها الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعضها مُبَيَّن في القرآن، وليس كل هذه الأجناس من المال تجب فيه الزكاة، بل لابد من شروط.
والزكاة جزء بسيط يؤدي بها الإنسان ركنًا من أركان الإسلام، يطهِّر بها نفسه من البخل والرذيلة، ويطهر بها صفحات كتابه من الخطايا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار».
وأفضل الصدقات: الزكاة؛ فدِرْهمٌ تخرجه في زكاتك أفضل من درهم تخرجه تطوُّعًا؛ لأن الله تعالى قال في الحديث القدسي: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشي أحب إليَّ مما افترضته عليه».
وركعة من صلاة مفروضة أفضل من ركعة من صلاة تطوع، فالفرائض أفضل من التطوع.
ففي الزكاة تكفير الخطايا، وفيها الإحسان إلى الخلق؛ لأن المزكي يحسن إلى المدفوع إليه الزكاة فيدخل في عداد المحسنين الذين يدخلون في محبة الله؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].
وفي الزكاة أيضًا: تأليف بين الناس؛ لأن الفقراء إذا أعطاهم الأغنياء من الزكاة، ذهب ما في نفوسهم من الحقد على الأغنياء، أما إذا منعهم الأغنياء ولم يتفضلوا عليهم بشيء صار في نفوسهم أحقاد على الأغنياء.
وفي الزكاة أيضًا إغناء للفقراء عن التسلط؛ لأن الفقير إذا قدر أن الغني لا يعطيه شيئًا فإنه يخشى منه أن يتسلط وأن يكسر الأبواب وينهب الأموال؛ لأنه لابد أن يعيش، لابد أن يأكل ويشرب، فإذا كان لا يعطى شيئًا فإن الجوع والعطش والعُري يدفعه على أن يتسلط على الناس بالسرقة والنهب وغير ذلك.
وفي الزكاة أيضًا: جلبٌ للخيرات من السماء، فإنه قد ورد في الحديث: «ما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القطر من السماء».
فإذا أدَّى الناس زكاة أموالهم أنزل الله لهم بركات من السماء والأرض، وحصل في هذا نزول المطر ونبات الأرض وشبع المواشي وسقي الناس بهذا الماء الذي ينزل من السماء، وغير ذلك من المصالح الكثيرة.
وفي الزكاة أيضًا: إعانة للمجاهدين في سبيل الله؛ لأن من أصناف الزكاة الجهاد في سبيل الله؛ كما قال الله: ﴿ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
وفي الزكاة تحرير الرقيق من الرِّق، فإن الإنسان يجوز له أن يشتري عبدًا مملوكًا من الزكاة فيعتقه؛ لأن الله قال: ﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾.
وفي الزكاة أيضًا: فَكُّ الذمم من الديون، كم من إنسان ابتلي بتراكم الديون عليه فتؤدى عنه من الزكاة، فيحصل في هذا خير كثير، فكاك لذمته وردُّ حقٍّ لمن له الحق.
وفي الزكاة أيضًا: إعانة المسافرين الذين تنقطع بهم السبل، فيضيع ماله الذي أتى به معه ولا يجد ما يوصِّله إلى بلده، فهذا يُعطى من الزكاة مايوصله إلى بلده ولو كان غنيًّا في بلده.
المهم أن الزكاة فيها مصالح كثيرة؛ ولهذا صارت ركنًا من أركان الإسلام.
واختلف العلماء فيما لو تهاون الإنسان بها: هل يكفر كما يكفر بالتهاون بالصلاة أو لا؟
والصحيح أنه لا يكفر، ودليل ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار».
فإن هذا الحديث يدل على أنه لا يكفر؛ لأنه لو كان كافرًا بترك الزكاة لم يكن له سبيل إلى الجنة، والحديث يقول: «ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار».
وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أنه يكفر إذا بخل بالزكاة؛ قال: لأنها ركن من أركان الإسلام، وإذا فات ركن من أركان البيت سقط البيت.
ولكن الصحيح أنه لا يكفر، إلا أنه على خطر عظيم - والعياذ بالله - وفيه هذا الوعيد الشديد.
مسألة في الأموال الزكوية: لأن الأموال ليست كلها فيها زكاة، بل منها ما فيه الزكاة ومنها ما لا زكاة فيه، فالزكاة واجبة في أمور:
أولًا: الذهب والفضة: فتجب الزكاة فيهما على أي حال كانا، سواء كانت نقودًا كالدراهم والدنانير، أو تِبْرًا كالقطع من الذهب والفضة، أو حُليًّا يُلبس أو يستعار، أو غير ذلك.
فهذا المعدن - وهو الذهب والفضة - فيه الزكاة على كل حال، لكن بشرط أن يبلغ النصاب لمدة سنة كاملة.
والنصاب من الذهب: خمسة وثمانون جرامًا، والنصاب من الفضة ستة وخمسون ريالًا سعوديًّا، وهي خمس مائة وخمسة وتسعون جرامًا (595).
فمن عنده من الذهب أو الفضة هذا المقدار مَلَكَ النصاب، فإذا استمر ذلك إلى تمام السنة ففيه الزكاة، وإن نقص فلا زكاة فيه.
لو كان عنده ثمانون جرامًا فلا زكاة عليه، أو كان عنده خمس مائة وتسعون جراما (590) من الفضة فلا زكاة عليه.
واختلف العلماء: هل يُكمِل نصاب الذهب بالفضة أو لا؟ يعني لو ملك نصف نصاب من الذهب ونصف نصاب من الفضة، فهل يكمل بعضها ببعض ونقول إنه ملك نصابًا فتجب عليها الزكاة أو لا؟
الصحيح أنه لا يكمَّل الذهب من الفضة ولا الفضة من الذهب، فكل واحد مستقل بنفسه، كما أنه لا يكمَّل البر من الشعير، أو الشعير من البر، فكذلك لا يكمَّل الذهب بالفضة، ولا الفضة بالذهب.
فلو كان عند الإنسان نصف نصاب من الذهب، ونصف نصاب من الفضة، فلا زكاة عليه.
ويلحق بالذهب والفضة ما جرى مجرى الذهب والفضة، وهي العملة النقدية، من ورق أو نُحاس أو غيره، فإن هذه فيها الزكاة إذا بلغت نصابًا بأحد النقدين، بالذهب أو بالفضة، فإن لم تبلغ فلا زكاة.
فمثلًا: إذا كان عند الإنسان ثلاثمائة من الريالات الورقية، لكنها لا تبلغ نصابًا من الفضة، فلا زكاة عليه؛ لأن هذه مربوطة بالفضة.
وأما الجواهر الثمينة من غير الذهب والفضة، مثل اللؤلؤ والمرجان والمعادن الأخرى، كالألماس وشبهه، فهذه ليس فيها زكاة ولو كثر ما عند الإنسان منها، إلا ما أعدَّه للتجارة، فما أعده للتجارة ففيه الزكاة من أي صنف كان، أما ما لا يعد للتجارة فلا زكاة فيه، إلا الذهب والفضة.
الصنف الثاني مما تجب فيه الزكاة: بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، ففيها الزكاة، لكن بشرط أن تبلغ نصابًا.
وأقل نصاب في الإبل خمس، وأقل نصاب في البقر ثلاثون، وأقل نصاب في الغنم أربعون.
والبهيمة ليست كغيرها من الأموال إذا بلغت النصاب، فما زاد فبحسابه، لا بل هي مرتبة:
ففي أربعين من الغنم شاة أيضًا حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين (121) فيكون فيها شاتان، فالوقص ما بين النصابين ليس فيه زكاة، فمن أربعين إلى مائة وعشرين كلها ليس فيها إلا شاة واحدة، ومن مائة وإحدى وعشرين إلى مائتين فيه شاتان، وفي مائتين وواحدة (201) ثلاث شياه، وفي ثلاثمائة ثلاث شياه، وفي ثلاثمائة وتسع وتسعين ثلاث شياه، وفي أربعمائة أربع شياه.
وكذلك الإبل: من أربع وعشرين فأقل زكاتها من الغنم على كل خمس شاة.
ومن الخمس وعشرين فما فوق زكاتها من الإبل، لكنها بأسنان مختلفة.
وبهيمة الأنعام يشترط لوجوب الزكاة فيها أن تبلغ النصاب، وأن تكون سائمة، والسائمة الراعية التي ترعى في البر ولا تعلف، إما السنة كلها وإما أكثر السنة، فإذا كان عند الإنسان أربعون شاة تسرح وترعى كل السنة ففيها زكاة، وإذا كانت تسرح وترعى ثمانية أشهر ففيها الزكاة، ومثلها سبعة أشهر، وإذا كانت ستة أشهر ترعى وستة أشهر تعلف فليس فيها زكاة، وإذا كانت خمسة أشهر ترعى وسبعة أشهر تعلف فليس فيها زكاة، وإذا كانت تعلف كل السنة فليس فيها زكاة؛ لأنه يشترط أن تكون سائمة، إما السنة كلها أو أكثرها.
ولكن إذا كان الإنسان متاجرًا في الغنم مثلًا وليس يبقيها للتَّنمية والنسل، وإنما يشتري البهيمة اليوم ويبيعها غدًا يطلب الربح، فهذا عليه الزكاة، ولو لم يكن عنده إلا واحدة إذا بلغت نصابًا في الفضة؛ لأن عروض التجارة فيها الزكاة بكل حال، ونصابها مقدَّر بنصاب الذهب أو الفضة، والغالب أن الأحظَّ للفقراء هو الفضة في زماننا؛ لأن الذهب غالٍ.
الثالث من الأموال الزكوية: الخارج من الأرض من حبوب وثمار؛ مثل التمر، والبُر، والأرز، والشعير، وما أشبهها.
وهذا لابد فيه من بلوغ النصاب وهو ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرفه الذين يأخذون الزكاة من الفلَّاحين، فإذا كان عند الإنسان نخل يثمر، وبلغت ثماره نصابًا وجب عليه الزكاة، ويجب عليه أن يخرج من متوسط الثمر، لا من الطيب فيظلم، ولا من الرديء فيظلم، وإنما يكون من الوسط.
وإذا باع الإنسان ثمره فإنه يزكي من الثمن، ومقدار الزكاة في الخارج من الأرض العشر، إن كان يشرب سيحًا بدون مكائن أو مواتير فإن فيه العشر كاملًا، واحد من عشرة.
فإذا كان عنده مثلًا عشرة آلاف كيلو فالواجب عليه ألف كيلو.
أما إذا كان يستخرج الماء بوسيلة، كالمواتير والمكائن وشبهها، فإن عليه نصف العشر، ففي عشرة آلاف كيلو خمسمائة فقط؛ وذلك لأن الذي يُسقي بمؤونة يغرم فيه الفلاح أكثر من الذي يُسقى بلا مؤونة، فكان من حكمة الله عز وجل ورحمته أن خفف الزكاة على هذا الذي يسقيه بالمؤونة والتعب.
أما الرابع من أصناف الزكاة فهو عروض التجارة: وعروض التجارة: كل ما أعده الإنسان للتجارة، من عقارات وأقمشة وأوان وسيارات وغيرها، فليس لها شيء معين، فكل ما عرضته للتجارة؛ يعني: ملكته من أجل أن تنتظر فيه الكسب، فإنه عروض تجارة يجب عليك أن تزكيه.
ومقدار الزكاة فيه ربع العشر كالذهب والفضة، أي: واحد في الأربعين، وفي المائة اثنان ونصف.
وإذا كان لديك مال وأردت أن تعرف مقدار الزكاة فالمسألة سهلة، أُقَسِّمُ المال على أربعين والخارج بالقسمة هو الزكاة.
فإذا كان عند الإنسان أربعون ألفًا من الدراهم، فزكاتها ألف درهم، وفي مائة وعشرين ألف ريال ثلاثة آلاف ريال، وهلمَّ جرًّا.
المهم إذا أردت حساب زكاتك من المال فاقسم المال على أربعين، فالخارج بالقسمة هو الزكاة.
وسمى عروض التجارة عُروضًا؛ لأنه ليس بثابت، بل يعرض ويزول، فكل شيء يعرض ويزول يسمى عرضًا؛ كما قال الله تعالى: ﴿ تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [النساء: 94].
والأموال التجارية هكذا عند التجار، يشتري الإنسان السلعة لا يريد عينها، وإنما يريد ما وراءها من كسْب، ولهذا تجده يشتريها في الصباح وتكسبه في آخر النهار فيبيعها، فعروض التجارة إذًا كل ما أعدَّه الإنسان للاتِّجار ففيه زكاة.
وكيفية زكاة العروض أنه إذا جاء وقت الزكاة في مالك تقوِّم كل ما عندك من هذه العروض وتُخرج ربع عشر قيمتها، حتى وإن كنت لم تشترها إلا أخيرًا.
مثال ذلك: إنسان تحل زكاته في شهر رجب، واشترى سلعة في شهر ربيع، فنقول له: إذا جاء شهر رجب فقدر قيمتها بما تساوي وأخرج زكاتها.
فإذا قال: إنها لم تتم عندي سنة؟ قلنا: لا عبرة في عروض التجارة بالسنة! عروض التجارة مبنيَّةٌ على القيمة، والقيمة لها سنة عندك، فتقدرها بما تساوي وقت الوجوب، سواء كانت أكثر مما اشتريتها به أم أقل، فإذا قُدِّر أنك اشتريتها بعشرة آلاف ريال (10000) وكانت عند وجوب الزكاة تساوي ثمانية آلاف ريال (8000) فالزكاة على ثمانية، وإذا اشتريتها بثمانية وكانت تساوي عند وجوب الزكاة عشرة، فالزكاة على العشرة، وإذا كنت لا تدري هل تكسب أو لا تكسب فالمعتبر رأس المال، فاعتبر رأس المال.
مصارف الزكاة:
تصرف الزكاة على الذين عيَّنهم الله بحكمته، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ﴾؛ أي: لابد أن تكون الزكاة في هذه الاصناف ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
فالفقراء والمساكين: هم الذين لا يجدون كفايتهم وكفاية عوائلهم لمدة سنة.
مثاله: رجل موظف براتب شهري قدْره أربعة آلاف ريال، لكن عنده عائلة يصرف ستة آلاف ريال، فهذا يكون فقيرًا؛ لأنه لا يجد ما يكفيه، فنعطيه أربعة وعشرين ألفًا من الزكاة من أجل أن نكمل نفقته.
ورجل آخر راتبه ستة آلاف في الشهر، لكنه عنده عائلة كبيرة، والمؤنة شديدة لا يكفيه إلا اثنا عشر ألفًا، فنعطيه من الزكاة اثنين وسبعين ألفًا.
يقول العلماء: نعطيه ما يكفيه لمدة سنة، ولا نعطيه أكثر من كفاية سنة؛ لأنه على مدار السنة تأتى زكاة جديدة تسُدُّ حاجته، فلهذا قدَّرها العلماء بالسنة.
فإذا قال قائل: أيهما أشد حاجة: الفقير أو المسكين؟
قال العلماء: إنما يبدأ بالأهم فالأهم، والله تعالى قد بدأ بالفقير، فيكون الفقير أشد حاجة من المسكين.
الثالث: العاملون عليها: أي: الذين وَلَّاهم رئيس الدولة أمر الزكاة يأخذونها من أهلها وينفقونها في مستحقها، فيعطيهم رئيس الدولة مقدار أجرتهم ولو كانوا أغنياء؛ لأنهم يستحقونها بالعمل لا بالحاجة.
فإذا قال ولي الأمر: هؤلاء الواحد منهم إذا عمل بالشهر فراتبه ألف ريال، فنعطيهم على ألف ريال من الزكاة؛ وذلك لأنهم يتصرَّفون في الزكاة لمصلحة الزكاة فأُعطوا منها.
لكن إذا أحب ولي الأمر أن يُعطيهم من بيت مال المسلمين المال العام ليوفر الزكاة لمستحقيها فلا بأس.
الرابع: المؤلفة قلوبهم: وهم الذين يؤلَّفون على الإسلام؛ يكون رجلًا آمن حديثًا ويحتاج أن نقوي إيمانه، فنعطيه من الزكاة من أجل أن يألف الإسلام ويحب المسلمين ويتقوَّى، ويعرف أن دين الإسلام دين صلة ودين رابطة.
ثانيًا: ومن التأليف أن نعطي شخصًا للتخلص من شره، حتى يزول ما في قلبه من الحقد على المسلمين والعداوة.
واختلف العلماء: هل يشترط في المؤلفة قلوبهم أن يكون لهم سيادة وشرف في قومهم أو لا يشترط؟
والصحيح أنه لا يشترط، حتى لو أعطيت فردًا من الناس لتؤلِّفه على الإسلام كفى.
أما إذا أعطيت فردًا من الناس من أجل أن تدفع شره فهذا لا يجوز؛ لأن الواحد من الناس ترفعه إلى ولاة الأمور ويأخذون حقك منه.
الخامس: ﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾: ذكر العلماء إنها تشمل ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن تشتري عبدًا فتعتقه.
النوع الثاني: أن تساعد مكاتبًا في مكاتبته، والمكاتب هو العبد الذي اشترى نفسه من سيده.
الثالث: أن تفك بها أسيرًا مسلمًا عند الكفار أو عند غيرهم، حتى لو اختطف مسلم عند أناس ظلمة ولم يفكوه إلا بفداء من الزكاة فلا بأس.
السادس: قوله: ﴿ وَالْغَارِمِينَ ﴾: والغارم: هو الذي يكون في ذمته دين لا يستطيع وفاءه، أو يكون في ذمته دين لمصلحة عامة وإن كان يستطيع وفاءه.
ولهذا قال العلماء: إن الغُرم نوعان:
النوع الأول: الغارم لغيره.
والثاني: الغارم لنفسه.
الغارم لغيره: هو الذي يغرم مالًا لإصلاح ذات البين؛ مثل: أن يكون بين قبيلتين نزاع ومشاجرة ومخاصمة ومعاداة وبغضاء، فيقوم رجل من أهل الخير فيصلح بين القبيلتين على مال يلتزم به في ذمته، فهنا يكون غارمًا لكن ليس لنفسه، بل لمصلحة عامة، وهي الإصلاح بين هاتين القبيلتين.
قال العلماء: فيُعطى هذا الرجل ما يوَفِّي به من العزم وإن كان غنيًّا؛ لأن هذا ليس لنفسه، بل لمصلحة الغير.
فلو قُدر أن رجلًا عنده مائة ألف فأصلح بين قبيلتين بعشرة آلاف ريال يستطيع أن يوفيها من ماله، لكن نقول لا يلزمه، بل نعطيه من الزكاة ما يدفع به هذا الغُرم؛ لأن ذلك لمصلحة الغير، ولأن هذا يفتح باب الإصلاح للناس؛ لأننا لو لم نُعن هذا الرجل ونعطه ما غرم، لتكاسل الناس عن الإصلاح بين الفئات المتناحرة أو المتعادية، فإذا أعطينا من غرم صار في هذا تنشيط له.
أما النوع الثاني: فهو الغارم لنفسه؛ مثل: رجل استأجر بيتًا بخمسة آلاف ريال وليس عنده ما يدفع به الإجار، هو نفسه في أكله وشربه ولباسه ليس محتاجًا، لكن يحتاج إلى وفاء الدين الذي لزمه بالاستئجار للبيت، فنعطي هذا الرجل أجرة البيت من الزكاة؛ لأنه من الغارمين.
كذلك إنسان أُصيب بجائحة اجتاحت ماله؛ مثل: الحريق أو الغرق أو ما أشبه ذلك، وقد لحقه في هذا دين، فنعطيه ما يسدد دينه؛ لأنه غير قادر على الوفاء.
هذا النوع من الغرم يشترط فيه أن يكون الغارم عاجزًا عن وفاء الدين، فإن كان قادرًا، فإنه لا يعطى.
ولكن هل يجوز أن يذهب الإنسان لمن له الدَّين ويقول له: هذا الطلب الذي لك على فلان خذه، وينويه من الزكاة؟
الجواب: نعم يجوز، وليس بشرط أن تعطي الغارم ليعطي الدائن، بل لو ذهبت للطالب منذ أول الأمر وقلت له: يا فلان بلغني أنك تطلب من فلان عشرة آلاف ريال، قال نعم، وأثبت ذلك، فتعطيه إياها، ولا حاجة لإخبار المدين؛ وذلك لأن المقصود هنا إبراء الذمة، وهو حاصل سواء أخبرته أم لم تخبره.
وتأمل التعبير في الآية: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾؛ كل هذه الثلاث معطوفة على قوله: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ ﴾؛ باللام، ﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾، ولم يقل: «وللرقاب»، بل قال: «في» الدالة على الظرفية؛ يعني: أنك إذا صرفت الزكاة في هذه الجهات يجوز وإن لم تعط صاحبها.
﴿ وَالْغَارِمِينَ ﴾ معطوفة على ﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾؛ فيه من مدخول في؛ أي: وفي الغارمين، فلا حاجة لأن تملك الغارم ليعطي الدائن، بل يكفي أن تذهب وتعطي الدائن ليبرئ المدين.
فإذا قال قائل: هل الأحسن أن أذهب إلى الدائن وأُوَفِّيَه، أو أُعطي الغريم لكي يوفي بنفسه؟
نقول: في هذا تفصيل: إذا كنت تخشى أنك لو أعطيت الغريم لم يوف، بل أكل الدراهم وترك الدَّين على ما هو عليه فهنا لا تعط الغريم، بل أعط الدائن؛ لأنك لو أعطيت الغارم سينفق الأموال في أمور غير مهمة وتَرَك الدَّين، وبعض الناس لا يهتمون بالدين الذي عليهم، فإذا كنت تعلم أن المدين (الغارم) لو أعطيته لأفسد المال وبقيت ذمته مشغولة، فلا تعطه وأعط الدائن، أما إذا كان الغريم صاحب عقل ودين، ولا يمكن أن يرضى ببقاء ذمته مشغولة، ويغلب على ظني كثيرًا أنني إذا أعطيته سوف يذهب فورًا إلى الدائن ويقضي من دينه، فهنا نعطي الغريم، نقول: خذ هذه الدراهم أوف بها عن نفسك؛ لأن هذا أستر له وأحسن.
ولكن يجب علينا إذا كنا نوزِّع الزكاة أن نحذر من حيلة بعض الناس؛ بعض الناس يقدم لك كشفًا بالدين الذي عليه، وتوفي ما شاء الله أن توفي، وبعد سنة يقدم لك نفس الكشف ولا يخصم الذي أوفى عنه، فانتبه لهذا؛ لأن بعض الناس- والعياذ بالله - لا يهمه حلال ولا حرام، المهم اكتساب المال، فيأتي بالقائمة الأولى التي قد قضى نصفها ويعرضها عليك، فانتبه لذلك.
وقد قُدِّمَ لنا من هذا النوع أشياء، وذهبنا نسلِّمُ الدائن بناء على الكشف الذي قدَّم، فقال الدائن: إنه قد أوفاني، وهذه مشكلة، لكن الإنسان يتحرز، وهو إذا اتقى الله ما استطاع، ثم تبيَّن فيما بعد أن الذي أخذ الزكاة ليس أهلًا لها فإن ذمته تبرأ، وهذه من نعمة الله.
يعني: لو أعطيت زكاتك شخصًا ثم تبيَّن لك أنه ليس من أهل الزكاة رغم أنك اجتهدت فلا شيء عليك، وزكاتك مقبولة.
السابع قوله: ﴿ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: والجهاد في سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، هكذا حدده النبي صلى الله عليه وسلم حينما سُئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»؛ وهذه كلمة جامعة مانعة، وقد تقدَّم الكلام على هذا.
تنبيه: يجوز قتل المسلم الظالم في الحرب وإن كان مسلمًا.
فإذا قال قائل: وإن كان مكرهًا؟
الجواب: أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إذا قاتل المسلمون مع التتار فإنهم يقاتَلون وإن كانوا مسلمين، ولو كانوا مكرهين، فإن كانوا صادقين بأنهم مكرهون فإن لهم أجر الشهيد؛ لأنهم قتلوا ظلمًا من الذي أكرههم؛ لأن الظلم على الذي أكرههم، وإن كانوا غير صادقين، بل هم مختارون طائعون، فهذا ما أصابهم وهم الذين جرُّوه على أنفسهم.
وقد قال رحمه الله في تعليل ذلك: إنه لا يعلم المكره من غير المكره؛ لأن ذلك محله القلب، فالاختيار والكراهة محلها القلب، فلا يعلم المكره من غيره، فيقتل المكره دفاعًا عن الحق وحسابه على الله.
نعم، لو فرض أنه أُسر وهو مسلم حقيقة فإنه لا يجوز قتله، أما في ميدان القتال فإنه يُقتل، وقد ذكرها رحمه الله في «الفتاوى» في كتاب الجهاد ج (28) ص(544-553).
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ يشمل إعطاء الزكاة للمجاهدين أنفسهم، وشراء الأسلحة لهم، فشراء الأسلحة من الزكاة جائز من أجل الجهاد في سبيل الله.
قال أهل العلم: ومن ذلك: أن يتفرغ شخص لطلب العلم وهو قادر على التكسب، لكنه تفرغ من أجل أن يطلب العلم، فإنه يعطى من الزكاة مقدار حاجته؛ لأن طلب العلم جهاد في سبيل الله.
أما مَن تفرغ للعبادة فلا يعطى من الزكاة، بل يقال اكتسب.
وبهذا عرفنا شرف العلم على العبادة، فلو جاء رجلان أحدهما دَيِّنٌ طيب ويقول: أنا أستطيع أن أتكسَّب لكن أحب أن أتفرغ للعبادة من الصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن فأعطوني من الزكاة واكفوني العمل!
نقول: لا نعطيك بل اكتسب.
وجاء رجل آخر قال: أنا أريد أن أتفرَّغ لطلب العلم وأنا قادر على التكسب، لكن إن ذهبت أتكسب لم أطلب العلم فأعطوني ما يكفيني من أجل أن أتفرغ لطلب العلم، قلنا: نعطيك ما يكفيك لطلب العلم، وهذا دليل على شرف العلم وطلبه.
الثامن: ﴿ ابْنِ السَّبِيل ﴾: وهو الصنف الثامن من أصناف أهل الزكاة.
وابن السبيل هو المسافر الذي انقطع به السفر ونفدت نفقته، فلم يكن معه ما يوصله إلى بلده، وليس هذا من باب الفقراء والمساكين؛ لأنه غني في بلده، لكن قصرت به النفقة في أثناء السفر، فيعطى ما يوصله إلى بلده ولو كان غنيًّا.
وسمي ابن سبيل لمصاحبته للسفر، كما يقال ابن الماء في طير الماء الذي يألف الماء فيقع عليه.
هؤلاء ثمانية أصناف لا يجوز صرف الزكاة في غيرهم، فلا يجوز أن تصرف الزكاة في بناء المساجد، ولا في إصلاح الطرق، ولا في بناء المدارس، ولا غيرها من طرق الخير؛ لأن الله ذكر هذه الأصناف بصيغة محصورة فقال: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ... ﴾ [التوبة: 60]، و﴿ إِنَّمَا ﴾ تفيد الحصر، وهو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه.
ولو قلنا بجواز صرف الزكاة في جميع وجوه الخير لفاتت فائدة الحصر، ولكن بناء المساجد وإصلاح الطرق وبناء المدارس وما أشبهها تفعل من طرق أخرى، من طرق البِر والصدقات والتبرعات.
هذا هو الركن الثالث من أركان الإسلام الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام في حديثه الطويل!
أما الرابع فقد قال: «وصوم رمضان»: ورمضان شهر بين شعبان وشوال، وسمي رمضان بهذا الاسم؛ قيل: لأنه عند أول تسمية الشهور صادف أنه كان في شدة الرمضاء والحر فسمي رمضان.
وقيل: لأنه تُطفأ به حرارة الذنوب؛ لأن الذنوب حارة: و«من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».
والمهم أن هذا الشهر معلوم للمسلمين، ذكره الله سبحانه وتعالى باسمه في كتابه فقال: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، ولم يذكر الله اسمًا لشهر من الشهور سوى هذا الشهر.
وصيام رمضان ركن من أركان الإسلام لا يتم الإسلام إلا به، ولكنه لا يجب إلا على من تمت فيه الشروط الآتية: أن يكون مسلمًا، وأن يكون بالغًا، وعاقلًا، قادرًا، مقيمًا، سالمًا من الموانع.
هذه ستة شروط؛ فإن كان صغيرًا لم يجب عليه الصوم، إن كان مجنونًا لم يجب عليه الصوم، إن كان كافرًا لم يجب عليه الصوم، إن كان عاجزًا فعلى قسمين:
أ- إن كان عجزه يرجى زواله؛ كالمرض الطارئ أفطر، ثم قضى أيامًا بعدد ما أفطر.
ب- وإن كان عجزًا لا يرجى زواله؛ كالكبر والأمراض التي لا يرجى برؤها فإنه يطعم عن كل يوم مسكينًا.
و«مقيمًا»؛ ضده المسافر، فالمسافر ليس عليه صوم، ولكنه يقضي من أيام أُخر.
«سالمًا من الموانع»؛ احترازًا من الحائض والنفساء، فإنهما لا يجب عليهما الصوم، بل ولا يجوز أن تصوما، ولكنهما تقضيان.
وصوم رمضان يكون بعدد أيامه، إما تسعة وعشرين، وإما ثلاثين حسب رؤية الهلال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين».
عدة شعبان إن كان في أول الشهر، وعدة رمضان إن كان في آخر الشهر.
الركن الخامس: «حج البيت»؛ وهو بيت الله سبحانه وتعالى؛ أي: قَصْدُه لأداء المناسك التي بيَّنها الله سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فحج البيت أحد أركان الإسلام، ومِن حجِّ البيت: العمرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سماها حجًّا أصغر، ولكن له شروط؛ منها البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، والاستطاعة؛ خمسة شروط؛ فإذا اختلَّ شرط واحد منها فإنه لا يجب.
ولكن العجز عن الحج إن كان بالمال فإنه لا يجب عليه، لا بنفسه ولا بنائبه.
وإن كان بالبدن: فإن كان عجزًا يرجى زواله انتظر حتى يعافيه الله ويزول المانع، وإن كان لا يرجى زواله كالكبر، فإنه يلزمه أن ينيب عنه من يأتي بالحج؛ لأن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي أدركته فريضة الله على عباده شيخًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم».
فأقرَّها النبي صلى الله عليه وسلم، على أنها سمَّت هذا فريضة مع أنه لا يستطيع، لكنه قادر بماله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «حجِّي عنه».
هذه خمسة أركان هي أركان الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجُّ بيت الله الحرام، فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره بذلك، قال له: صَدَقْتَ، قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه؛ لأن الذي يصدق الشخص بقوله يعني أن عنده علمًا من ذلك، فعجبنا كيف يسأله ثم يقول صدقت.
والسائل إذا أجيب يقول: فهمت، لا يقول صدقت، لكن جبريل عليه الصلاة والسلام عنده علم من هذا؛ ولهذا قال: صدقت.