الأولى: توحيدهم إيَّاه سبحانه وتعالى:
قال الله تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ *إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [الشعراء: 105- 108].
ومثلها ما في سورة الشعراء، وغيرها مما يماثلها من الآيات، وقد قدمنا كلام أهل العلم في أن معنى هذه الآيات هو التوحيد، وأنه من صفات رسل الله وأنبياء الله مع ربهم، بل هو ما بدؤوا الدعوة إليه، وشاركهم فيه من هداه الله.
وبعد أن ذكر الله قصة كل نبي، ختمها بقوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 8]، فدلَّ على أن التقوى - التي من معانيها التوحيد - الجامعة لكل أمور البر، تعتبر آية من آيات الله، ولكن للمؤمنين، أهل الهداية التوفيق، والله أعلم.
الثانية: الإيمان بالله والملائكة والكتاب، والنبيين والغيب واليوم الآخر:
قال الله تعالى: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 1 - 4].
وقال الله تعالى: ﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ إلى قوله: ﴿ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة:177].
وقال تعالى: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 113- 115].
وقال تبارك وتعالى: ﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 44].
ففي آية البقرة أنَّ من صفاتهم: الإيمان بالله، وملائكته، والكتاب المنزَّل على رسوله صلى الله عليه وسلم، والكُتب، والنبيين.
وفي آيتي: آل عمران، والتوبة: من صفاتهم: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والله أعلم.
ولابن كثير كلام على آية البقرة، ذكرتُه في (صفاتهم مع الملائكة).
الثالثة: الالتجاء إليه سبحانه عندما يصيبهم طائف من شياطين الجن أو الإنس:
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف:201].
قال ابن كثير في "تفسيره" (3 /534): يخبر تعالى عن المتقين من عباده، الذين أطاعوه فيما أمر، وتركوا ما عنه زجر، أنهم إِذَا مَسَّهُمْ؛ أي: أصابهم طيف، وقرأ آخرون: طائف، وقد جاء فيه حديث، وهما قراءتان مشهورتان، فقيل: بمعنى واحد، وقيل: بينهما فرق، ومنهم من فسر ذلك بالغضب، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه، ومنهم من فسره بالهم بالذنب، ومنهم من فسره بإصابة الذنب.
وقوله: تَذَكَّرُوا؛ أي: عقاب الله وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فتابوا وأنابوا، واستعاذوا بالله، ورجعوا إليه من قريب.
قوله: فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ؛ أي: قد استقاموا، وصحُّوا مما كانوا فيه.
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه ها هنا حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبها طيف، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني، فقال: (إن شئتِ دعوت اللهَ فشفاك، وإن شئتِ فاصبري، ولا حساب عليكِ)، فقالت: بل أصبر، ولا حساب عليَّ.
ورواه غير واحد من أهل السنن، وعندهم: قالت يا رسول الله، إني أصرع وأتكشف، فادع الله أن يشفيني، فقال: (إن شئتِ دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت صبرتِ ولك الجنة)، فقالت: بل أصبر، ولي الجنة، ولكن ادع الله ألا أتكشف، فدعا لها، فكانت لا تتكشف، وأخرجه الحاكم في "مستدركه"، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه [ رواه الحاكم في "المستدرك" (4 /218) ].
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/3 14) عند حديث ابن عباس في قصة المرأة التي كانت تصرع وتتكشف، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب منه الدعاء، قال: وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء، والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل، وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوي، وهو قوة توجهه، وقوة قلبه بالتقوى والتوكل، والله أعلم.
الرابعة: الصبر على أقدار الله تعالى:
قال الله تعالى: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة:177].
وقال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 15-17].
وقال الله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 127ـ 128].
وروى الإمام البخاري برقم (1252)، ومسلم (2139)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لامرأة وجدها تبكي عند قبر على ولدٍ لها: «اتقي الله واصبري».
فعلم: أن تقوى الله أعظم معين لمن أعانه الله على الصبر في كل شيء، والله أعلم.
الخامسة: الرجوع إلى الله تعالى بفعل الطاعات والتوبة والاستغفار من الذنوب في كل وقت وحين:
قال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ﴾ إلى قوله: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 15-17].
وقال الله تعالى: ﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 133-135].
ويقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 15-18].
وروى البخاري برقم (2215)، ومسلم (6949)، عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا:«أن ثلاثة نفر آواهم المبيت إلى غارٍ، فانسد عليهم، فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي بنت عمٍ راودتها عن نفسها، فأبت إلا أن أعطيها مائة دينار، فسعيتُ، حتى أتيت بها، فلما خلتني من نفسها، وقعدت منها مقعد الرجل من امرأته، قالت: اتَّق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فتركتها ابتغاء وجهك».
السادسة: الوفاء بعهد الله وميثاقه الذي واثقهم به:
قال الله تعالى: ﴿ والْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [المائدة:7].
وقال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ﴾ [الأنفال: 56].
فأثبت الله التقوى لمن وفَّى بعده وميثاقه، ونفاها عمن نقض ذلك، والله أعلم.
السابعة: ولايتُهم له جل وعلا:
قال الله تعالى: ﴿ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 34].
وقال الله تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 62، 63].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الجاثية: 19].
فبان مما تقدم أن الولاية لله تعالى لا تتحقق، إلا بثلاثة شروط:
الأول: عدم الصد عن دين الله تعالى، ولو عن أمرٍ يسيرٍ من أمور الدين.
الثاني: الإيمان بالله تعالى المستوفي لشروطه وأركانه وواجباته.
الثالث: تحقيق التقوى على ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
الثامنة: قربهم من الله تعالى في الدنيا والآخرة:
أما الدليل على قربهم من الله في الدنيا، فقد وردت أدلة صحيحة صريحة في ذلك؛ منها:
قوله تعالى: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)؛ رواه مسلم برقم (482)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: من تقرب مني شبرًا تقرَّبت منه ذراعًا...)؛ الحديث رواه مسلم برقم (2687)، عن أبي ذر رضي الله عنه.
وغيرها من الأدلة الدالة على القرب من الله تعالى قرب يليق بجلاله.
وأما دليل قربهم منه في الدار الآخرة، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54ـ 55].
وقد نص على ذلك ابن كثير والفيروز آبادي، كما بيَّنت ذلك في (باب فضائل المتقين).
وقال العلامة العثيمين في "تفسيره" (10 /168): قوله: ﴿ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾: هو الله جل وعلا؛ ا .هـ، والله أعلم.
« فواز بن علي بن عباس السليماني »