وقوله «أخبرني عن الإيمان»؛ الإيمان محله القلب، والإسلام محله الجوارح؛ ولهذا نقول: الإسلام عمل ظاهري، والإيمان أمر باطني، فهو في القلب.
فالإيمان: هو اعتقاد الإنسان للشيء اعتقادًا جازمًا به لا يتطرق إليه الشك ولا الاحتمال، بل يؤمن به كما يؤمن بالشمس في رابعة النهار لا يُمترى فيه، فهو إقرار جازم لا يلحقه شك موجب لقبول ما جاء في شرع الله، والإذعان له إذعانًا تامًّا.
فقال له: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»؛ هذه ستة أركان هي أركان الإيمان.
قوله: «أن تؤمن بالله»؛ أي: تؤمن بأن الله سبحانه موجود، حي، عليم، قادر، وأنه سبحانه وتعالى رب العالمين، لا رب سواه، وأن له الملك المطلق، وله الحمد المطلق، وإليه يرجع الأمر كله، وأنه سبحانه هو المستحق للعبادة لا يستحقها أحد سواه، سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي عليه التُّكلان، ومنه النصر والتوفيق، وأنه متصف بكل صفات الكمال على وجه لا يماثل صفات المخلوقين؛ لأنه سبحانه وتعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11].
إذًا تؤمن بوجود الله، وبربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، لا بد من هذا، فمن أنكر وجود الله فهو كافر - والعياذ بالله - مخلد في النار، ومن تردد في ذلك أو شك فهو كافر؛ لأنه لا بد في الإيمان من الجزم بأن الله حي، عليم، قادر، موجود، ومَن شك في ربوبيته فإنه كافر، ومن أشرك معه أحد في ربوبيته فهو كافر.
فمن قال: إن الأولياء يدبِّرون الكون ولهم تصرف في الكون، فدعاهم، واستغاث بهم، واستنصر بهم فإنه كافر والعياذ بالله؛ لأنه لم يؤمن بالله.
ومن صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله فهو كافر؛ لأنه لم يؤمن بانفراده بالألوهية، فمن سجد للشمس أو القمر، أو للشجر، أو للنهر، أو للبحر، أو للجبال، أو للملَك، أو لنبي من الأنبياء، أو لولي من الأولياء، فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة؛ لأنه أشرك بالله معه غيره.
وكذلك من أنكر على وجه التكذيب شيئًا مما وصف الله به نفسه فإنه كافر؛ لأنه مكذب لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أنكر صفة من صفات الله على وجه التكذيب فهو كافر؛ لتكذيبه لما جاء في الكتاب والسنة.
فإذا قال مثلًا: إن الله لم يستوِ على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا؛ فهو كافر، وإذا أنكرها على وجه التأويل فإنه يُنظر، هل تأويله سائغ يمكن أن يكون محل للاجتهاد أو لا؟، فإن كان سائغًا فإنه لا يكفر، لكنه يُفسَّق؛ لخروجه عن منهج أهل السنة والجماعة، وأما إذا كان ليس له مسوِّغ، فإن إنكار التأويل الذي لا مسوغ له كإنكار التكذيب، فيكون أيضًا كافرًا والعياذ بالله.
وإذا آمنت بالله على الوجه الصحيح، فإنك سوف تقوم بطاعته ممتثلًا أمره مجتنبًا نهيه؛ لأن الذي يؤمن بالله على الوجه الصحيح لابد أن يقع في قلبه تعظيم الله على الإطلاق، ولابد أن يقع في قلبه محبة الله على الإطلاق، فإذا أحبَّ الله حبًّا مطلقًا لا يساويه أي حب، وإذا عظَّم تعظيمًا مطلقًا لا يساويه أي تعظيم، فإنه بذلك يقوم بأوامر الله وينتهي عما نهى الله عنه.
كذلك يجب عليك - من جملة الإيمان بالله - أن تؤمن بأن الله فوق كل شيء، على عرشه استوى، والعرش فوق المخلوقات كلها، وهو أعظم المخلوقات التي نعلمها؛ لأنه جاء في الأثر: «إن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة أُلقيت في فلاة من الأرض»؛ السموات السبع على سعتها والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة بالنسبة للأرض، ألقِ حلقة من حلق المغفر في فلاة من الأرض، وانظر نسبة هذه الحلقة بالنسبة للفلاة ماذا تكون؟ لا شيء! ما هذه الحلقة بالنسبة للفلاة؟ ليست بشيء؛ وفي بقية الأثر: «وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة».
إذًا الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة أُلقيت في فلاة من الأرض؛ فانظر إلى عِظَم هذا العرش؛ ولهذا وصفه الله بالعظيم؛ كما قال: ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 129]، وقال: ﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾ [البروج: 15]، فوصفه الله بالمجد والعظمة، وكذلك بالكرم.
فهذا العرش استوى الله تعالى فوقه، فالله فوق العرش، والعرش فوق جميع المخلوقات، والكرسي - وهو صغير بالنسبة للعرش - وسع السماوات والأرض؛ كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ ﴾ [البقرة: 255]، فيجب عليك أن تؤمن بأن الله تعالى فوق كل شيء، وأن جميع الأشياء ليست بالنسبة إلى الله شيئًا، فالله تعالى أعظمُ وأجلُّ من أن يحيط به العقل أو الفكر، بل حتى البصر إذا رأى الله - والله سبحانه وتعالى يراه المؤمنون في الجنة - لا يمكن أن يدركوه أو يحيطوا به؛ كما قال الله: ﴿ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ﴾ [الأنعام: 103]؛ فشأن الله أعظمُ شأن وأجلُّ شأن، فلا بد أن تؤمن بالله سبحانه وتعالى على هذا الوجه العظيم حتى يوجب لك أن تعبده حق عبادته.
ومن الإيمان بالله: أن تؤمن بأن الله تعالى قد أحاط بكل شي علمًا، وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض من قليل وكثير، وجليل ودقيق؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5].
وكذلك تؤمن بأن الله تعالى على كل شيء قدير، وأنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، مهما كان هذا الأمر.
وانظر إلى بعث الناس وخَلْقِ الناس، الناس ملايين لا يحصيهم إلا الله عز وجل، وقد قال تعالى: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [لقمان: 28]؛ كل الخلائق خلقهم وبعثهم كنفس واحدة.
وقال الله عز وجل في البعث: ﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ﴾ [النازعـات: 14، 13].
وترى شيئًا من آيات الله في حياتك اليومية، فإن الإنسان إذا نام فقد توفاه الله؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ﴾ [الأنعام: 60]؛ لكنها ليست وفاة تامة تفارق فيه الروح الجسد مفارقة تامة، لكن مفارقة لها نوع اتصال بالبدن، ثم يبعث الله النائم من نومه فيحس بأنه قد حيي حياة جديدة، وكان أثر هذا يظهر قبل أن توجد هذه الأنوار الكهربائية؛ لما كان الناس إذا غشيهم الليل أحسُّوا بالظلمة وأحسوا بالوحشة وأحسوا بالسكون، فإذا انبلج الصبح أحسوا بالإسفار، والنور والانشراح، فيجدون لذة لإدبار الليل وإقبال النهار، أما اليوم فقد أصبحت الليالي كأنها النهار، فلا نجد اللذة التي كنا نجدها من قبل، ولكن مع ذلك يحس الإنسان بأنه إذا استيقظ من نومه فكأنما استيقظ إلى حياة جديدة، وهذه من رحمة الله وحكمته.
وكذلك نؤمن بأن الله سميع بصير، يسمع كل ما نقول وإن كان خفيًّا، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الزخرف: 80]، وقال الله عز وجل: ﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طـه: 7]، أي: أخفى من السر، وهو ما يُكِنُّه الإنسان في نفسه؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾ [ق: 16]؛ أي: ما تُحَدِّثُ به نفسه يعلمه الله وإن كان لم يظهر للعباد.
وهو عز وجل بصير، يبصر دبيب النمل الأسود على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، لا يخفى عليه.
فإذا آمنت بعلم الله، وقُدرته، وسمعه، وبصره، أوجب لك ذلك أن تراعي ربك عز وجل، وأن لا تُسمعه إلا ما يرضى به، وأن لا تفعل إلا ما يرضى به؛ لأنك إن تكلَّمت سمعك، وإن فعلت رآك الله، فأنت تخشى ربك، وتخاف من ربك أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، وكذلك تخشى من ربك أن تسمعه ما لا يرضاه، وأن تسكت عما أمرك به، كذلك إذا آمنت بتمام قدرة الله فإنك تسأله كلَّ ما تريده مما لا يكون فيه اعتداء في الدعاء، ولا تقل: إن هذا بعيد، وإن هذا شيء لا يمكن! كل شي ممكن على قدرة الله؛ فها هو موسى عليه الصلاة والسلام لما وصل إلى البحر الأحمر هاربًا من فرعون وقومه، أمره الله أن يضرب البحر بعصاه، فَضَرَبَهُ، فانفلق اثني عشر طريقًا، كان الماء بين هذه الطرق كالجبال، وفي لحظة يبسَ البحر وصاروا يمشون عليه كأنما يمشون على صحراء لم يصبها الماء أبدًا بقدرة الله سبحانه وتعالى.
ويُذكر أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما كان يفتح بلاد فارس ووصل إلى دجلة - النهر المعروف في العراق - عَبَرَ الفُرْسُ النهر مشرقين وكسروا الجسور وأغرقوا السفن لئلا يعبر إليهم المسلمون، فاستشار رضي الله عنه الصحابة، وفي النهاية قرَّروا أن يعبروا النهر، فعبروا النهر يمشون على سطح الماء بخيلهم وإبلهم ورجلهم لم يمسهم سوء! فمن الذي أمسك هذا النهر حتى صار كالصفاء، كالحجر يسير عليه الجند من غير أن يغرقوا؟ إنه هو الله عز وجل الذي على كل شيء قدير.
وكذلك جرى للعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه حينما غزا البحرين واعترض لهم البحر، دعا الله سبحانه وتعالى فعبروا على سطح الماء من غير أن يَمَسَّهم سوء.
وآيات الله كثيرة، فكل ما أخبر الله به في كتابه أو أخبر به رسوله عليه الصلاة والسلام أو شاهده الناس من خوارق العادات فإن الإيمان به من الإيمان بالله؛ لأنه إيمان بقدرة الله سبحانه وتعالى.
ومن الإيمان بالله سبحانه وتعالى أن تعلم أنه يراك، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذه مسألة يغفل عنها كثير من الناس، تجده يتعبد لله وكأن العبادة أمر عادي يفعله على سبيل العادة، لا يفعلها كأنه يُشاهدُ ربه عز وجل، وهذا نقص في الإيمان ونقص في العمل.
ومن الإيمان بالله: أن تؤمن بأن الحكم لله العلي الكبير؛ الحكم الكوني والشرعي كله لله لا حاكم إلا الله سبحانه وتعالى وبيده كل شيء؛ كما قال الله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
فكم من مَلِكٍ سُلبَ ملكه بين عشيَّةٍ وضحاها، وكم من إنسان عادي صار ملكًا بين عشية وضحاها؛ لأن الأمر بيد الله، وكم من إنسان عزيز يرى أنه غالب لكل أحد، فيكون أذل عباد الله بين عشية وضحاها! وكم من إنسان ذليل يكون عزيزًا بين عشية وضحاها؛ لأن المُلْكَ والحكم لله سبحانه وتعالى، وكذلك الحكم الشرعي لله، ليس لأحد، فالله تعالى هو الذي يحلل ويحرم ويوجب، وليس أحد من الخلق له الفصل في ذلك، فالإيجاب والتحليل والتحريم لله؛ ولهذا نهى الله عباده أن يصفوا شيئًا بالحلال والحرام بدون إذن، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النحل: 117، 116].
فالحاصل أن الإيمان بالله بابه واسع جدًّا، ولو ذهب الإنسان يتكلم عليه لبقي أيامًا كثيرة، ولكن الإشارة تُغني عن طويل العبارة.
يتبع...