" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
عباد الله، إن من الخصال الجميلة والخلال الحميدة والأخلاق العالية الرفيعة - الهمةَ العالية؛ قال الله: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وقال تعالى: ﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ [الصافات: 61]، فالعمل الصالح أحقُّ ما أُنفقت فيه نفائس الأنفاس، وأولى ما شمَّر إليه العارفون الأكياس، والحسرة كل الحسرة أن يمضيَ على المرء وقتٌ من أوقاته وهو غير مشتغلٍ بالعمل الذي يقرب للدار الآخرة، فكيف إذا كان يسير بخطاه إلى دار البوار؟ يقول السعدي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26]: "أي: يتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بُذلت فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحولُ الرجال".
اعلموا عباد الله أن درجاتِ الكمال وعلوَ الإيمان والبلغة العظيمة من التقوى والإحسان - لا تُنال إلا أن يجودَ المرء بالنفس والنفيس، بالقليل والكثير؛ لأن المكارم منوطةٌ بالمكاره، واللذات والكمالات التامة لا تُنال إلا بحظٍّ من المشقة وبحظٍّ من الصبر؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غاليةٌ، ألا إن سلعة الله الجنة))؛ لذا فإن الجنة درجاتٌ؛ جاء في الصحيحين قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الدرجات العلى ليرَون أهل عليين كما ترَون الكوكب الغابر في أفق السماء))، وقال تعالى: ﴿ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 21].
الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة والقدوة الرائعة في علو الهمة والشجاعة والإقدام؛ فقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، صلى معه ابن مسعود ذات مرة فقال: ((صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فأطال القيام حتى هممتُ بأمر سوء، قيل: وما هممتَ به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه)).
وفي بدرٍ ملحمة الإسلام الخالدة الكبرى وفتحه الأعظم، لما جاء المشركون، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يُقدِمنَّ أحدٌ منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه)).
عالي الهمة يا عباد الله لا يُرى خاملًا كسولًا، بل هو متحفزٌ يقِظٌ، إن جئتَ إلى المسجد كان فيه، وإن عددتَ الصائمين عددته معهم، وإن سمع قصص القائمين، كابد ليله فلا تجده في السَّحَرِ مع النائمين، يشرق بدمعاته ويفيض بدعواته، ساجدًا راكعًا متذللًا لله خاضعًا، يسبح له في الغدو والآصال؛ قال تعالى: ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37].
بأيدينا عباد الله أصحُّ تراثٍ سماوي، وبأيماننا ريُّ الدنيا، وديننا دينٌ عصيٌّ على الفناء، يُحرك الروح الهامدة، ويُجدِّد الأسمال البالية، ونحن نستشفي بهذا القرآن من عِلَلِنا وأسقامنا، نتلمس فيه الهدى، ونبصر فيه الفرج، نقرأ فيه ما يزيد قلوبنا بإذن الله إيمانًا وعقلًا وحكمةً وبصيرةً وتوفيقًا؛ ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90].
أعظمُ نعمة عباد الله هي نعمةُ الدين والتزامُ السُّنَّة، ولما قصَّ الله خبر نوح وقومه، جعله ذكرى لمن بعدهم؛ قال تعالى في سورة المؤمنون: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ [المؤمنون: 30]؛ لذا قال الإمام مالك رحمه الله: "السنَّةُ سفينةُ نوح مَن ركبها نجا، ومَن تخلَّف عنها غرق".
عباد الله، تأملوا يا رحمكم الله في الصحب الكرام رضوان الله عليهم كيف كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كانوا بعده لم يكسلوا، بل علَتْ هممهم حتى أنهم غلبوا أعظم حضارتين، وخفقت راياتهم في روابي المشرقين، وملؤوا الدنيا حضارةً وعلمًا وهدًى، وهذَّبوا البشرية في أخبار وسِيَرٍ تأسر القلوب، وتأخذ بالألباب، ولولا التاريخ لقيل عنها إنها ضربٌ من الأحلام.
لقد كانوا رضوان الله عليهم بشرًا من البشر، لكن قلوبهم صاغها الوحي فتعلقت بالسماء، اصطفاهم الله وامتحنهم فصدقوا ونجحوا، وانظروا يا رحمكم الله إلى ربيعة بن كعب الأسلمي من أهل الصُّفَّةِ ليس عنده شيءٌ من الدنيا، كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شديد الشغف به، حتى كان يبيت على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تحرِّيًا لحاجته؛ قال رضي الله عنه: ((كنتُ أبيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: يا ربيعة، سَلْني، قلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قلتُ: هو ذاك، قال: فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود))؛ أي: كثرة الصلاة، و((أفضل الصلاة طول القنوت)) كما جاء في الحديث؛ أي: طول القيام، فهو أدعى للتدبر وكثرة القراءة.
عباد الله، لقد كان الصحابة بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم يجاهدون أنفسهم على ألَّا ينقصوا من العمل الذي فارقهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، حتى إن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما ((لما أوصاه نبي الله صلى الله عليه وسلم بأن يرفق بنفسه في العبادة، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فلما كبر لم يُطِقْ، فقال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم))، ولما حضرت الوفاةُ حذيفةَ بن اليمان رضي الله عنه دخل عليه أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه فقال: "يا أبا عبدالله، اعهد إلينا، فقال حذيفة: أولم يأتِكَ اليقين؟ اعلم أن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنتَ تنكر، وأن تنكر ما كنتَ تعرف، وإياك والتلون في دين الله؛ فإن دين الله واحد"؛ قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ [الأحقاف: 35]، ألا إنه لطريقٌ شاقٌّ وطويل يحتاج إلى صبرٍ ومصابرة، إلى رباطٍ ومرابطة، إلى عدم الاستعجال، مرارة الصبر تحتاج فيه إلى جرعاتٍ حلوة من رحيق القرآن الكريم: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: 130].
الهمة العالية حتى في الأمور المباحة الطيبة من أمور الدنيا تجلب لك بإذن الله خيرًا غير مجذوذ، فلا تُرى واقفًا إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطًا يديك إلا لمهمات الأمور، وتلك مزية تشغل عن المعصية وتقرب من الجدية، والجدية لطاعة الله أقرب.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: "النفوس العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش، ولا بالسرقة ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك، والنفوس الحقيرة بالضد من ذلك"، والحياة الطيبة عباد الله إنما تُنال بالهمة العالية، والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون سعادة المرء.
إذا ما مات ذو علم وتقوى ، فقد ثُلِمت من الإسلام ثُلمة ، وموتُ فتًى كثير الجود محْلٌ ، وإنَّ بقاءه خصبٌ ونعمة ، وموتُ الفارس الضِّرغام هدمٌ ، فكم شهِدتْ له بالنصر عزمة ، وموتُ العابدِ البَكَّاءِ ليلًا ، يُناجي رَبَّهُ في كُلِّ ظُلمة ، فَحَسبُكَ خَمسَةٌ يُبكَى عليهم ، وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الهمم العالية التقية النقية.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.....
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ أما بعد:
عبدالله، تذكَّر أن الصراط المستقيم الذي تسلكه إنما هو طريقٌ عتيقٌ قديم، قد سار فيه من قبلك الأنبياءُ والعلماءُ والشهداء والصالحون، ومَن اصطفاهم الله بقوله: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ﴾ [النمل: 59]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: 32].
الناس فيهم خيرٌ كثير، والواجب عباد الله العناية بهذا الخير وتنميته وحراسته من ﻋﺎديات السوء، وتربية الأبناء والبنات على خوف الله وتقواه، والعلم به وبحدوده وشريعته، واحترام سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واحترام أهل الخير والصلاح والتقوى وطلبة العلم، وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل ويبشر ويعِدُ بحسن المآلات؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيتُ ذات ليلة فيما يرى النائم، كأنَّا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطبِ ابنِ طابٍ، فأوَّلتُ الرِّفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب)).
الهمُّ والغمُّ يحبطان المرء، ويضعفان سعيه أو يقطعانه، ومقادير الله نافذةٌ في المآلات لحِكَمٍ يريدها الله، وليس على المرء إلا أن يسعى في إصلاح نفسه ومَن حوله، مع بذل الدعاء لهم والرفق بهم، ومحبة ما لديهم من خير؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾ [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 6]، ورحمة الله قريبٌ من المحسنين.
هذا، وصلوا وسلموا على النعمة المهداة والرحمة المسداة، على حبيبنا وشفيعنا وقرة أعيننا محمد بن عبدالله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على رسول الله، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين عليٍّ، وعن باقي العشرة وأهل الشجرة، وأهل بدرٍ وأحد، وباقي الصحابة الكرام، وتابعيهم، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلوبنا على دينك، اللهم لا تحرمنا من الإسلام بذنوبنا وآثامنا يا رب العالمين، اللهم متِّعْنا بالإسلام يا رب العالمين، متعنا به قائمين وقاعدين وراقدين، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذلَّ الشرك والمشركين.
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182] ".
« الشيخ : عبدالله أحمد علي الزهراني »
« يوم الجمعة : 20 جمادى الأخرى 1441ه - 14 فبراير 2020م »