الحمد لله القائل: ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 8]، والقائل: ﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ [الزخرف: 12، 13]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
أيها المسلمون:
إن الناس في هذه الأيام تعُدُّ العُدَّة للسفر وتتأهب له، وإن النبي صلى الله عليه وسلم سنَّ لنا سُننًا في السفر، وجعل لنا آدابًا يتحلى بها المسافر، فيكون على هديِ نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام؛ ومن آداب السفر:
أولًا: الاستخارة: وهي أن تُوكِلَ أمرك لعلَّام الغيوب فيما أنت مستقبلٌ من أمرك؛ فهو يعلم حالك وما ينفعك وما يضرك.
ثانيًا: أنه يُستحبُّ السفر يوم الخميس أول النهار؛ ففي الحديث ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة تبوك يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس))؛ [متفق عليه]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها))؛ [رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن].
ثالثًا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر الواحد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الناس يعلمون من الوَحْدَةِ ما أعلم، ما سار راكبٌ بليل وحده))؛ [رواه البخاري].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة رَكْبٌ))؛ [رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة، وقال الترمذي: حديث حسن].
قال ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "وأما ما يكون في الخطوط العامرة التي لا تكاد تمر فيها دقيقة واحدة إلا وتمر بك فيها سيارة، فهذا وإن كان الإنسان في سيارة وحده، فليس من هذا الباب - يعني: ليس من باب السفر وحده - لأن الخطوط الآن عامرة من محافظة لأخرى، ومن مدينة لثانية، وما أشبه ذلك، فلا يدخل في النهي".
رابعًا: وإذا كانوا ثلاثة فأكثر، فليُؤمِّروا عليهم واحدًا يُطيعونه، وهذا فيما يخص السفر، وكذلك عليه أن يشاورهم في أمرهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خرج ثلاثة في سفر، فليُؤمِّروا أحدهم))؛ [حديث حسن، رواه أبو داود بإسناد حسن].
خامسًا: وحذَّر عليه الصلاة والسلام من النوم في الطريق؛ لِما فيه ذلك من مخاطرَ على المسافر، وفي أيامنا هذه يقع عليه خطر أكثر من السيارات التي ترتاد هذا الطريق، فعليه أن يجتنب الطريق بمسافة كافية؛ حتى لا يقتحم عليه سائق نائم، أو يحصل له أمر ما بسبب السيارات المارة على الطريق، وكذلك الدواب والهَوام، فإنها تقصد الطريق.
وفي السفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فاجتنبوا الطريق؛ فإنها طُرُقُ الدواب، ومأوى الهَوامِّ بالليل))؛ [رواه مسلم].
سادسًا: وعلى الجماعة إذا نزلوا منزلًا ألَّا يتفرقوا، وعليهم أن يجتمعوا؛ كما ورد في الحديث عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: ((كان الناس إذا نزلوا منزلًا، تفرَّقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تفرقكم في هذه الشِّعَابِ والأودية إنما ذلكم من الشيطان، فلم ينزلوا بعد ذلك منزلًا إلا انضمَّ بعضهم إلى بعض))؛ [رواه أبو داود بإسناد حسن].
سابعًا: سُنة السُّرَى: أي: السير بالليل: وهو مستحب؛ لأن الليل يكون باردًا، وتُطوى الأرض للمسافر؛ أي: لا يشعر بطول المسافة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالدُّلْجة؛ فإن الأرض تُطوى بالليل))؛ [رواه أبو داود بإسناد حسن].
ثامنًا: العناية بالمركوب والمحافظة عليه، وتوفير له كان ما يحتاج إليه من صيانة، والرفق في السير به، ولا يُحمِّلها أكثر مما هي مهيئة له من الرِّكَابِ أو الأحمال؛ لأن في هذا ضررًا على المركوب والراكب؛ ((مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحِقَ ظهره ببطنه، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المُعجَمة، فاركبوها صالحةً، وكلوها صالحةً))؛ [رواه أبو داود بإسناد صحيح].
تاسعًا: المحافظة على الأذكار في السفر؛ ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]؛ ومنها: دعاء ركوب الدابة، ودعاء السفر، والتكبير إذا علا مرتفعًا، والتسبيح إذا نزل منخفضًا، وكذلك للمسافر دعوة مستجابة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شكَّ فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده))؛ [رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، وليس في رواية أبي داود]، ودعاء من خاف من أناس؛ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قومًا، قال: ((اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم))؛ [رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح].
ودعاء إذا نزل منزلًا، ودعاء إذا أقبل الليل؛ ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل، قال: يا أرضُ، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرِّك وشرِّ ما فيك، وشر ما خُلق فيك، وشر ما يدبُّ عليك، وأعوذ بك من شر أسدٍ وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد))؛ [رواه أبو داود].
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، فله الحمد حتى يرضى، وله الحمد بعد الرضا، وله الحمد على حمدنا إياه، والسلام على نبيه محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
عباد الله:
يُستحب تعجيل رجوع المسافر إلى أهله إذا قضى حاجته، وذلك أن المسافر إذا سافر، فإنه يترك أهله، وربما يحتاجون إليه في تعليمهم ورعايتهم وغير ذلك، وربما يحدث لهم أشياءَ تُوجب أن يكون عندهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السفر قطعةٌ من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نَهْمَتَهُ من سفره، فليُعجِّلْ إلى أهله))؛ [متفق عليه].
وللقدوم من السفر سننٌ؛ منها:
1- يُستحَبُّ قدوم المسافر على أهله نهارًا، ويُكره ذلك ليلًا، إلا إذا كان عندهم علمٌ بقدومه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أطال أحدكم الغَيبة، فلا يطرُقَنَّ أهله ليلًا))؛ [متفق عليه].
2- يستحب أن يقول المسافر إذا رأى بلدته: ((آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون)).
3- يستحب للقادم الابتداءُ بالمسجد، وصلاة ركعتين فيه؛ فمن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أنه كان إذا قدِمَ من سفر، بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين))؛ [متفق عليه].
سبحان ربِّنا رب العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[ الشيخ : أحمد بن علوان السهيمي ]