الخطبة الأولى
لقد قضت سنة الله عز وجل أن تُبتلى النفوس في هذه الدنيا بالخير والشر والأمن والخوف؛ والمنح والمحن؛ والأقربين والأبعدين؛ وأن هذه الابتلاءات بأنواعها فيها الابتلاء والاختبار من رب العالمين؛ قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35].
ويذكر الراصدون والإحصائيون عن تكاثر المتغيرات الكونية على هذه الأرض وتتابع الحوادث والكوارث في هذا العصر ويقولون: إنه كلما تقدمت السنوات زاد عدد الزلازل وأنواع الكوارث، ولعل المتأمل يسترجع بعض هذه الآيات والحوادث والكوارث والنذر؛ ليجد أن منها أعاصير وزلازل وفيضانات وانهيارات وأوبئة وأمراض؛ من آيات الله وجنوده تذكر الغافلين وتنذر الظالمين وتوقظ المستكبرين؛ ويعتبرُ بها المؤمنون ويرجع بها المذنبون أمراض وأوبئة لا يملك أحدٌ ردَّها أو صدها ولا السيطرة عليها مهما أوتي من علم في مكتشفاته ومختبراته ومخترعاته وراصداته، إنها جنود من جنود الله في البر والبحر والجو؛ وما يعلم جنود ربك إلا هو؛ جنود غير متناهية لأن قدرة الله غير متناهية؛ فالكون كله بأنسه وجنه وأرضه وسمائه وهوائه ومائه وبره وبحره وكواكبه ونجومه وكلِّ مخلوقاته ما علمنا منها وما لم نعلم كلها مسخرة بأمره سبحانه، يمسك ما يشاء عمن يشاء؛ ويرسل ما يشاء إلى من يشاء، ومن ذلك ندركُ عظمةَ الجبار جل جلاله؛ وضعف جبابرة الأرض مهما أوتوا من قوة، كيف لا تدلُ على عظمة الجبار ومنها ما يهلك أمما ويدمر ديارا في ثوان وأجزاء من الثواني؛ منها ما يرى ومنها ما لا يرى نذر وآيات وعقوبات وتخويفات لا تدفعها القوى ولا تطيقها الطاقات؛ ولا تقدر عليها القدرات؛ ولا تتمكن منها الإمكانات ولا تفيد فيها الراصدات ولا التنبؤات؛ لا تصل إليها المضادات ولا المصدات؛ من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون.
إنها آيات الله وأيامه نُذُرٌ تظهر فيها عظمةُ ذي الجلال وقدرته وقوتُه وعظيمُ سلطانه وعزتُه وتمامُ ملكِه وأمرِه وتدبيرِه، إن هذه الحوادث والقوارع توقظُ قلوباً غافلة؛ لتراجع توحيدها وإخلاصها؛ فلا تشرك معه في قوته وقدرته وسلطانه أحداً، ويفيقُ بعضُ من غرَّتهم قوتُهم وفرحوا بما عندهم من العلم؛ فيتذكروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وأعظم علما.
قال سبحانه ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59] وقال صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس وخسوف القمر " إنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده ".
وهذا هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخوفه من ربه مع أن الله سبحانه وتعالى قد جعله أمنة لأصحابه ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: 33] ومع هذا كان إذا هبت الريح الشديدة عرف ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم وحين ينعقد الغمام في السماء ويكون السحاب ركاما يُرى عليه الصلاة والسلام يقبل ويدبر ويدخل البيتَ ويخرج، فتقول له عائشةُ رضي الله عنها: ما بك يا رسول الله؟! فيقول: "ما يؤمِّنُنِي أن يكون عذاباً، إن قوماً رأوا ذلك فقالوا هذا عارض ممطرنا، فقال الله ﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأحقاف: 24] " حتى إذا نزل المطر سُرِّي عنه عليه الصلاة والسلام.
عباد الله، إن النظر إلى أن هذه الآيات والحوادث والكوارث - ولو عُرفت أسبابها المادية وتفسيراتها العلمية - لا ينبغي أن يُظن أن ذلك صارفٌ عن كونها آياتٍ وتخويفات، فلا بد من النظر فيما وراء الأسباب والتعليلات من أقدار الله وحُكْمه وحِكْمته؛ فهي آيات الله ومقاديره؛ يقدرها متى شاء ويرسلها كيف شاء ويمسكها عمن يشاء؛ يعجز الخلق عن دفعها ورفعها مهما كانت علومهم ومعارفهم واحتياطاتهم واستعداداتهم. وإن الركون إلى التفسير المادي والاستكانة إلى التحديث العلمي والبعد عن العظة والذكرى من تزيين الشيطان عياذاً بالله، ترتجف الديار ولا ترتجف الأفئدة وتعصف الرياح ولا تعصف النفوس وتتزلزل الأرض ولا يتزلزل ابن آدم المخذول.
إن المتأمل لأحوال بعض الناس ومواقفهم ومسالكهم يرى أمورا مخيفة فيهم جرأة على حرمات الله وانتهاك للموبقات وتضييع لأوامر الله وتجاوز لحدوده وتفريط في المسئوليات في العبادات والمعاملات وإضاعة للحقوق كأنهم يرون أنهم آمنون من مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
أيها المؤمنون، إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، و (إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبةَ في الدنيا؛ وإذا أراد بعبده شرًا أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة)، بهذا جاءت الأخبار عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن الاعتبار بآيات الله والرضا ببلائه لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب والفرار من قدر الله إلى قدر الله. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالوصية في مثل هذه المواقف وغيرها: بتقوى الله والصبر، والاعتبارِ؛ وأخذِ الحذر؛ والاعتصامِ بالله مولانا وهو نعم المولى ونعم النصير؛ والإكثارِ من الاستغفار وإظهار الندم والتوبة؛ ومحاسبة النفس؛ والرجوع إلى الله؛ والإكثار من الاستغفار والتضرع والدعاء والإحسان والصدقة.
فالله سبحانه يبعث النذر والآيات ليرجع العباد إلى ربهم وحتى لا يؤخذوا على غرة .
اللهم اغفر لنا وتب علينا، اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا يا أرحم الراحمين. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
خلق الله الخلق؛ وهو الخلاق العليم، فخلق هذه الأرض وأنبع عيونها وأظهر مكنونها وأجرى أنهارها وأنبت زرعها وأشجارها وثمارها، وجعل فيها الجبال أوتادا، ودحاها وبث الخلق فيها، يعيشون في أرجائها وأطرافها، حتى إذا انتهى الأمر وانقضى الأجل أذن الله لها فتزلزلت وتحركت وألقت ما فيها من الأموات وتخلَّت؛ وحدَّثت بما عمل العاملون على أرضها من الحسنات والسيئات قال تعالى ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 4 - 8]. ولله آيات وعظات؛ يُريها عبادَه في الدنيا إنذاراً وتخويفاً وتحذيراً وترهيباً وإيقاظاً وتذكيراً؛ ومن الآيات المخيفة والنذر المرعبة والعظات الموقظة آية الخسف والرجفة والزلزلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تقومُ الساعةُ حتى يُقبضَ العلمُ وتكثرَ الزلازلُ ويتقاربَ الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل، حتى يكثر المال فيفيض"، وعن عمران بن الحصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف فقال رجل من المسلمين يا رسول الله ومتى ذاك؟! قال: إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور"، وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : أنهلَك وفينا الصالحون، قال صلى الله عليه وسلم : (نعم إذا كثر الخبث).
اللهم اغفر لنا إنك أنت الغفور الودود، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم لا تؤاخذنا بسوء أعمالنا.
اللهم احمنا وإخواننا المسلمين من كوارث الزلازل والبراكين وغيرها برحمتك يا أرحم الراحمين.
[ الشيخ : عبد العزيز بن أحمد الغامدي ]