الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ الذي لم يزل بصفات الكمالِ مُتصفاً، وبآثارِ رُبوبيَّتهِ وآلائهِ إلى عباده مُتعرِّفاً، الكريمِ الذي إنْ وَعَدَ أنجزَ ووَفَا، وإنْ عُصيَ تجاوزَ وعَفَا، فسبحانه من إلهٍ أحاطَ علماً بجميع الكائناتِ ما ظهرَ منها وما اختفى، وأحصى على العبادِ أعمالَهُم حرفاً حَرْفاً، أحمَدُه سبحانه على ما عمَّ من آلائه وَوَفَى، وأشكُرُه وهو حسبُنا في كلِّ حالٍ وكفى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له شهادةَ مَن نزَّهَ رَبَّهُ عن الشركِ ونَفَى، وأقرَّ له بالوَحْدانيَّةِ مُعترِفاً، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه الذي نَسَخَ اللهُ بدينهِ الأديان، نبيٌّ بشَّرَ به كلُّ نبيٍّ قومَه وخصَّه اللهُ بالقرآن، ونصَرَه اللهُ بالرُّعبِ على مسيرةِ شهرٍ من الزمان، نبيٌّ خصَّ شهرَ شعبان بمزيدٍ من الصيام، اللهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه الذين جعلهم الله لأهل الأرضِ الأمان، وسلِّم تسليماً.
أمَّا بعد: فيا أيها الناسُ أُوصيكم وإيايَّ بتقوى اللهِ وطاعته، واعلموا أنَّ انقضاءَ رَجَبٍ وقُدُوم شعبان، وانصرامَ الشُّهورِ وتَكرار الزَّمان: تُناديكم بلسان الحالِ والاعتذارِ، وبيان أعيان الاعتبار، ألا فأكثروا ذكرَ هاذم اللذات، وتذكَّرُوا بما ذهبَ من أعماركم وفات، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليهِ وسلمَ: («أكثرُوا ذكْرَ هَاذمِ اللَّذاتِ»، يعني: الْمَوْت). رواه الترمذي وحسَّنه.
ألاَ واحذرُوا المعاصيَ فإنها جالبةُ النِّقَم، ومُغيِّرةُ النِّعَمِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11].
عبادَ الله: احمَدُوا الله تعالى أنْ مَدَّ في أعماركم، فإنكم اليومَ في شهرٍ عظيمٍ مشهورٍ، وزمانٍ جاءَ بفضلهِ الأثرُ المأثورُ، وكان يُكثرُ صيامَهُ نبيُّكم صلى الله عليهِ وسلمَ الأمين، وَوَردَ أن الأعمال تُعرَضُ فيه على ربِّ العالمين، فاشكُرُوا الله باغتنام شعبان بالأعمال الصالحة، متأسِّين فيها برسولكم الأمين، قال صلى الله عليهِ وسلمَ: (نِعْمَتانِ مَغبُونٌ فيهِما كَثيرٌ من الناسِ: الصِّحَّةُ والفَرَاغُ) رواه البخاري.
وقال صلَّى الله عليهِ وسلمَ: (بادِرُوا بالأعمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ الليلِ الْمُظلِمِ، يُصبحُ الرَّجُلُ مُؤمناً ويُمسي كافراً، أو يُمسي مُؤمناً ويُصبحُ كافراً، يَبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ من الدُّنيا) رواه مسلم.
ورُويَ عنه صلَّى الله عليهِ وسلمَ أنه قالَ: (بادِرُوا بالأعمالِ سَبعاً، هل تُنظرُونَ إلاَّ إلى فَقْرٍ مُنْسٍ، أو غِنًى مُطْغٍ، أو مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أو هَرَمٍ مُفَنِّدٍ، أو مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أوِ الدَّجَّالِ فَشَرُّ غائبٍ يُنتَظَرُ، أوِ الساعةِ فالساعةُ أَدْهَى وأَمَرُّ) رواه الترمذي وقال: (حَسَنٌ غريبٌ).
عبادَ الله: لقد كان نبيُّنا صلَّى الله عليهِ وسلمَ يُعظِّمُ هذا الشهرَ أيَّما تعظيم، فعن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: (لَم يَكُنِ النبيُّ صلى الله عليهِ وسلمَ يَصُومُ شهْراً أكثرَ من شعبانَ، فإنهُ كانَ يَصُومُ شعبانَ كُلَّهُ) رواه البخاري.
وفي روايةٍ: (قالت رضيَ اللهُ عنها: لم يكُن رسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ في الشهرِ من السَّنَةِ أكثَرَ صياماً منهُ في شعبانَ) رواه مسلم.
وعن أُمِّ سَلَمَةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: (ما رأيتُ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَصُومُ شهرَيْنِ مُتتابعينِ إلاَّ شعبانَ ورمَضَانَ) رواه الترمذي وحسَّنه.
وعنها رضيَ اللهُ عنها: (عنِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنهُ لَم يَكُن يَصُومُ من السَّنةِ شَهْراً تامَّاً إلاَّ شعبانَ يَصِلُهُ برَمَضانَ) رواه أبو داود وصحَّحه الألباني.
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: (كانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أَنْ يَصُومَهُ: شعبَانُ ثُمَّ يَصِلُهُ برَمَضَانَ) رواه الإمام أحمد وصحَّحه ابنُ خزيمة.
وعنها رضيَ اللهُ عنها: (كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَصُومُ حتى نَقُولَ لا يُفْطِرُ، ويُفطِرُ حتى نقولَ لا يَصُومُ، وما رأيتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ استَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلاَّ رَمَضَانَ، وما رأيتُهُ في شَهْرٍ أكثَرَ منهُ صياماً في شعبانَ) رواه مسلم.
وعن أبي سَلَمَةَ قالَ: (سَألتُ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها عن صِيَامِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالت: كانَ يَصُومُ حتى نَقُولَ قد صامَ، ويُفْطِرُ حتى نقُولَ قد أفطَرَ، ولم أَرَهُ صائماً من شَهْرٍ قَطُّ أكثَرَ من صيامِهِ من شعبانَ، كانَ يَصُومُ شعبانَ كُلَّهُ، كانَ يَصُومُ شعبانَ إلاَّ قليلاً) رواه مسلم.
قال ابنُ رَجَبٍ: (وقد رَجَّحَ طائفةٌ من العلماءِ منهم ابنُ الْمُبارَكِ وغيرُه: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يستكمل صيامَ شعبانَ، وإنما كان يَصومُ أكثرَهُ) انتهى.
وقال ابنُ حَجِرٍ الهيتمي: (أو كانَ مَرَّةً يَصُومُهُ جَميعَهُ، ومَرَّةً يَصُومُ مُعْظَمَهُ لئلاَّ يُتَوهَّمَ وُجُوبُهُ) انتهى.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصومُ شعبان كُلَّه، ورُبَّما صَامَهُ إلا قليلاً، كما ثبتَ ذلكَ من حديثِ عائشةَ وأُمِّ سلمةَ رضي الله عنهما.. أمَّا مَن صامَ أكثر الشهر أو الشهرَ كُلَّه فقد أصابَ السنة) انتهى.
قال ابنُ العطَّار رحمه الله: (وقد أجمعَ العلماءُ على جوازِ صَوْمِهِ كُلِّه، بل على استحبابه) انتهى.
فلمثل شعبانَ فليعملِ العاملون، وفي مثل شعبانَ فليتنافس المتنافسون.
جعلني الله وإياكم ووالدينا وأهلينا من الفائزين الآمنين، وجنَّبنا موارد الظالمين، آمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولوالدينا وأهلينا ولكافةِ أموات المسلمين من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
….
الخطبة الثانية
إِنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ مُحمَّداً عبدُه ورسولُه.
أمَّا بعدُ: فقد بيَّن نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّمَ الحكمة في تخصيصه شعبان بالصيام، وهو غفلةُ الناس عنه، وأنه شهرٌ تُرفَعُ فيه الأعمال إلى الله تعالى، فعن أُسامةَ بن زيدٍ رضي الله عنهما قال: (قُلتُ يا رسُولَ اللهِ: لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شهراً من الشُّهُورِ ما تَصُومُ من شعبانَ؟ قالَ: ذلكَ شَهْرٌ يَغفُلُ الناسُ عنهُ بينَ رَجَبٍ ورمضَانَ، وهُوَ شَهْرٌ تُرفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى رَبِّ العالمينَ، فأُحِبُّ أنْ يُرفَعَ عملي وأنا صائمٌ) رواه النسائيُّ وصحَّحه ابنُ خزيمة.
ومن الحكمةِ أيضاً: أنه شهرٌ يُكتبُ فيه الموتُ على كلِّ نفسٍ تلكَ السنة.
رُويَ عن عائشةَ رضي الله عنها (أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يَصُومُ شعبانَ كُلَّهُ، قالت: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ أَحَبُّ الشُّهُورِ إليكَ أنْ تَصُومَهُ شعبَانُ؟ قالَ: إِنَّ اللهَ يَكتُبُ على كُلِّ نَفْسٍ مَيِّتَةٍ تلكَ السَّنةَ، فأُحِبُّ أنْ يَأْتِيَني أَجَلِي وأنا صائمٌ) رواه أبو يعلى وحسَّنه المنذري والبوصيري.
قال ابنُ رجبٍ: (وقد ذكرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في حديثِ أُسامةَ معنيينِ:
أحدُهُما: أنه شهرٌ يَغفُلُ الناسُ عنه بينَ رَجَبٍ ورمضانَ، يُشيرُ إلى أنه لَمَّا اكتنَفَهُ شهرانِ عظيمانِ، الشهرُ الحرامُ وشهرُ الصيامِ اشتغلَ الناسُ بهما عنهُ فصارَ مَغفولاً عنه.. وفي إحياءِ الوقتِ المغفولِ عنه بالطاعةِ فوائدُ: منها: أنه يكونُ أخفى، وإخفاءُ النوافلِ وإسرارُها أفضلُ، لا سيَّما الصيامُ، فإنه سِرٌّ بينَ العبدِ وربِّه، ولهذا قيل: إنه ليسَ فيهِ رِياءٌ، وقد صامَ بعضُ السلفِ أربعينَ سنةً لا يَعلَمُ به أحدٌ، كان يَخرُجُ من بيته إلى سُوقهِ ومَعَهُ رَغيفانِ فيتصدَّقُ بهما ويصومُ، فيظنُّ أهلُه أنه أكلَهُما، ويَظُنُّ أهلُ السوقِ أنه أكلَ في بيتهِ.. واشتَهَرَ بعضُ الصالحينَ بكثرةِ الصيامِ، فكان يَجتهدُ في إظهارِ فطرهِ للناسِ، حتى كان يقومُ يومَ الجمعةِ والناسُ مجتمعون في مسجدِ الجامع، فيأخُذُ إبريقاً فيضَعُ بلبلتَهُ في فيهِ ويَمَصُّهُ ولا يَزْدَرِدُ منه شيئاً، ويبقى ساعةً كذلكَ ليَنظُرَ الناسُ إليه فيظنُّوا أنه يَشرَبُ الماءَ، وما يَدْخُلُ إلى حلقهِ منه شيءٌ.. ومنها: أنه أشقُّ على النفوسِ، وأفضلُ الأعمالِ أشقُّها على النفوسِ، وسببُ ذلكَ أن النفوسَ تتأسَّى بما تُشاهدُه من أحوال أبناءِ الجنسِ، فإذا كثُرَت يقظةُ الناسِ وطاعاتُهم كَثُرَ أهلُ الطاعةِ لكثرةِ المقتدينَ بهم، فسَهُلَت الطاعاتُ، وإذا كَثُرَت الغفلاتُ وأهلُها تأسَّى بهم عُمومُ الناسِ، فيَشُقُّ على نفوسِ المتيقِّظينَ طاعاتُهُم، لقلَّةِ مَن يقتدون بهم فيها.. ومنها: أن المنفردَ بالطاعةِ بينَ أهلِ المعاصي والغفلةِ قد يُدفَعُ به البلاءُ عن الناسِ كلِّهِم، فكأنه يَحميهِم ويُدافعُ عنهم) انتهى.
قال ابنُ الجوزي: (قالت لُؤْلُؤَةُ مَولاةُ عَمَّارٍ رضي الله عنه: كانَ عَمَّارٌ يَتَهَيَّأُ لصومِ شعبانَ كَمَا يَتَهَيَّأُ لصومِ رمَضَانَ) انتهى.
قال ابنُ القيم رحمه الله عن رفع الأعمال وعرضها على الله تعالى: (إن عمل العام يُرفعُ في شعبان كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهرٌ تُرفعُ فيه الأعمال، «فأُحبُّ أن يُرفعَ عملي وأنا صائمٌ»، ويُعرض عمل الأسبوع يوم الاثنين والخميس، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وعمل اليوم يُرفع في آخره قبل الليل، وعمل الليل في آخره قبل النهار، فهذا الرفعُ في اليوم والليلة أخصّ من الرفع في العام، وإذا انقضى الأجل رُفع عمل العُمُر كُلّه وطُويت صحيفة العمل، وهذه المسائل من أسرار مسائل القضاء والقدر، فصلوات الله وسلامه على هادى الأُمة وكاشف الغُمَّة، الذي أوضحَ اللهُ به المحجَّة، وأقام به الحجَّة، وأنار به السبيل، وأوضح به الدليل) انتهى.
فهذا عبادَ اللهِ شهرُ شعبان قد مدَّ لكم ظِلُّه الظليل، وأقام لكم سُوقَ حسناته فالرابحُ مَن تاجرَ فيه مع الربِّ الجليل، شهرٌ كريمٌ بين شهرينِ كريمينِ قد حفَّا به فاقصِدُوا فيه سواءَ السبيل، فقد سمعتم فيه سُنَّةَ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فاقتدُوا به تفوزوا بالأجرِ الجزيل.
جعلني الله وإياكم ممن سَمِعَ الوعظَ فوعاه، واجتهدَ فيما يَرضَى به مولاه، وأعاذنا من الغفلة.
[ عبد الرحمن بن سعد الشثري ]