المصحف المرتل

( الاستقامة على دين الله )

الإستقامة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:


فإن الاستقامة معناها الاعتدال والوسطية بين الإفراط والتفريط، بين التشدد والتساهل، وذلك بالسير على وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح، من صدر هذه الأمة، الله سبحانه وتعالى قال: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ( الأنعام : 153 ).


(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً) معتدلا، (فَاتَّبِعُوهُ) سيروا عليه، (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي ما خالف هذا الصراط من مذاهب الناس وآرائهم وأقوالهم ومعتقداتهم المخالفة لمنهج الكتاب والسنة، (هَذَا) الإشارة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، (صِرَاطِي) أضافه إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، ولأنه سبحانه هو الذي شرعه، وأمر بإتباعه فقال: (فَاتَّبِعُوهُ)، سيروا عليه حتى يوصلكم إلى الله وإلى جنته، (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) انظر كيف وحَّد صراطه لأنه صراط واحد، وعدَّد السبل لأنها كثيرة، كل من خرج عن هذا الصراط فإنه يختار لنفسه سبيلا ومنهجا وطريقة يختص بها، والآخر كذلك، والآخر..إلى آخره.


فلا يجتمع هؤلاء أصحاب السبل على منهج واحد، فيكونوا مختلفين بخلاف الذين ساروا على صراط الله المستقيم، فإنهم يكونوا متفقين ومتوافقين ومتحابين ومجتمعين، وكما أنهم اجتمعوا في الدنيا على هذا الصراط وتحابوا في الله فإنهم يكونون في الجنة أيضا مجتمعين على سرر ﴿إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ ( الحجر : 47 )، هذا في الدنيا والآخرة، أما أصحاب السبل المخالفة لهذا الصراط فإنهم يعيشون على الاختلاف والتناحر والتباغض في الدنيا وفي يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا ويتشامتون بينهم، وكل يلقي باللائمة على الآخر، أنت الذي أضللتني، أنت الذي.. أنت الذي، هذا هو مصيرهم في الآخرة.


ولهذا قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ ( فصلت : 30 ).


(قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) أعلنوا التوحيد لله رب العالمين فهو الرب وهو المعبود وهو الإله وحده سبحانه وتعالى، لا معبود لهم سواه، ربنا الله، يعلنون هذا ما يكفي الاعتقاد بالقلب دون النطق باللسان، لأن المشركين يعتقدون بقلوبهم أن ربهم الله وأن الذي يستحق العبادة هو الله يعتقدون هذا بقلوبهم، لكنهم في العمل يخالفون ذلك لأهوائهم ورغباتهم ورئاساتهم ومناهجهم وجماعاتهم التي انحازوا إليها فهم في صراع مستمر، أما أهل الصراط المستقيم فإنهم في وفاق دائم، ولهذا قال: (ثُمَّ اسْتَقَامُوا)، (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) أعلنوا هذا ثم أتبعوا القول بالعمل ثم استقاموا على دينه، استقاموا على دينه، (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) اعتقدوا هذا بقلوبهم ولم يكن قولا بألسنتهم فقط، بل اعتقدوا هذا في قلوبهم، وساروا عليه في أعمالهم، وتصرفاتهم، فتبعوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه، وساروا على شرعه ودينه، هذه هي الاستقامة، ثم استقاموا.


لأنه لا يكفي القول بدون العمل، فهناك من يقول ربنا الله ثم لا يستقيم ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة : 8-9) هؤلاء هم المنافقون الذين قالوا ربنا الله في الظاهر ولكنهم لا يستقيمون على ذلك بالاعتقاد والعمل، أن يقولوا ربنا الله، ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه﴾ (العنكبوت : 10) فينحرف اتقاء لأذى الناس، ولا يَتصور عذاب الله وهو أشد من أذى الناس، فر من الرمضاء إلى النار والعياذ بالله.


﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة : 8)، مجرد قول ليس عليه استقامة، وإنما هو مجرد قول، وهؤلاء هم المنافقون، وهم (فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً)، (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)، (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ) هذا عند الوفاة، تتنزل عليهم الملائكة عند قبض أرواحهم تظهر لهم تبشرهم بما أمامهم، تطمئنهم على ذرياتهم، وعلى ما خلفوه من الدنيا (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ) ، تقول لهم لا تخافوا مما أنتم قادمون عليه، فإنكم قادمون على جنات ورضوان من الله سبحانه وتعالى ونعيم مقيم فلا تخافوا مما أمامكم، لأنكم أَمَّنْتُم مستقبلكم وأنتم على قيد الحياة، قدمتم لأنفسكم ما يؤمنكم يوم القيامة، ولا تحزنوا على ما تركتم من الدنيا من الأموال والأولاد، لأن ما عند الله خير وأبقى، (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)، لما طمأنوهم بشروهم، (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ (فصلت : 31) أي تطلبون، (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)، هذا نزلهم يوم الدين خلاف نزل الكافرين والمكذبين فإنه جهنم والعياذ بالله. (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ).


هذا في القرآن، في السنة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا" (صحيح الألباني) ، لن تحصوا كل ما أمر الله به أن تفعلوه، قد يكون هناك نقص، قد يكون هناك بعض النقص، ولكن هذا النقص يغفر لكم.


استقيموا ولن تحصوا ، فلا يستطيع الإنسان الاستقامة كلها بأن لا يترك من الدين شيئا، هذا مستحيل، ولكن يستقيم بحسب استطاعته ومقدرته ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا" (أخرجه البخاري) سددوا؛أي أصيبوا الهدف والحق فإن لم تستطيعوا التسديد فقاربوا قاربوا الإصابة، استقيموا ولن تحصوا ولكن سددوا وقاربوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة.


والله جل وعلا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (هود : 112)، يعني تكون الاستقامة حسب الأمر والنهي حسب شرع الله، لا يبتكر الإنسان عبادات أو أشياء من عنده ويظن أنها تقربه إلى الله (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ)، يستقيمون كما أُمِروا، (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) نهيٌ عن الغلو، ما يقول الإنسان أنا بستقيم ويشتد ويغلو حتى يخرج من الاستقامة إلى التشدد.


(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، وفي الآية الأخرى قال جل وعلا: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ)، استقيموا إليه بالإتباع والاقتداء، واستغفروه عما يحصل من النقص لأن الإنسان عرضة للنقص لكن يجبر ذلك بالاستغفار، (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ)، (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا)، هذا نهي عن الزيادة والغلو والتشدد، (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ)، هذا أمر بالاستغفار عن التقصير بالاستقامة لأن الإنسان عرضة للنقص مهما حاول، ولهذا قال: ولن تحصوا ، فالاستغفار يرقع ما حصل من الخلل، والله جل وعلا أمرنا أن ندعوه في كل ركعة من صلاتنا حينما نقرأ في سورة الفاتحة في آخرها (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) تطلب من الله أن يدلك ويرشدك ويثبتك على الصراط المستقيم، الذي قال الله عنه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) تسأل الله أن يبينه لك وأن يهديك له وأن يثبتك عليه، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بين الله جل وعلا من هم الذين أنعم عليهم في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً﴾ (النساء : 69)، فإذا أطعت الله ورسوله كنت مع هؤلاء ومن كان مع هؤلاء فلن يستوحش لا في الدنيا ولا في الآخرة، هؤلاء هم الرفيق، (وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً)، رفيق على هذا الطريق، لأن الذي يسير مع طريق يحتاج إلى رفيق يؤازره ويؤنسه، فرفيقك هم هؤلاء الصفوة من العباد.


ثم قال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) تسأل الله أن يجنبك طريق اليهود ومن سار على نهجهم من المتساهلين والمنحلين عن صراط الله (وَلا الضَّالِّينَ) وهم من تشدد في هذا الدين كالنصارى ومن سار على نهجهم، فأنت تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم، وأن يجنبك طريق المغضوب عليهم وهم اليهود ومن سار على نهجهم ممن أخذ العلم وترك العمل، تساهل، ويجنبك طريق الضالين وهم الذين يسيرون على غير علم ويتشددون، وهم النصارى في رهبانيتهم، فهذا أمر مهم جدا يجب أن نتنبه له، ولن نعرفه إلا إذا تعلمنا العلم الشرعي، تعلمنا تفاصيل ذلك، وبيانه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.


فلا بد من العلم أولًا، ثم العمل والاستقامة عليه، هناك من يدعو إلى التساهل وهناك من يدعو إلى التشدد الآن على الساحة، هناك جماعات تدعو إلى التشدد والغلو، وهناك جماعات في المقابل تدعو إلى التساهل والتسامح وإلى آخره، فلنكن على حذر من هؤلاء وهؤلاء، لنكن على حذر من الغلاة والمتشددين والمتطرفين، ولنكن على حذر أيضا من المتساهلين والمنحلين، ولنكن مع الوسط مع الاعتدال، مع الذين سلكوا طريق المنعم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.


الله جل وعلا قال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة : 100)، (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) أي بإتقان لا يغلون فيخرجون عن طريق المهاجرين والأنصار، ولا يتساهلون فيخرجون عن طريق المهاجرين والأنصار، هذا هو الإحسان، الإحسان هو الإتقان، ولن تتقن طريق المهاجرين والأنصار إلا إذا تعلمت طريقهم وما هم عليه، وعرفت ذلك بالتفصيل، وإلا كل يدَّعِي وصلا بليلى كما يقال.


كل يدعي أنه على منهج المهاجرين والأنصار، لكن هذه دعوى يخالفها واقعه وسيرته، إما أنه يجهل طريق المهاجرين والأنصار، فيظن أنه هو التشدد أو أنه هو التساهل، وإما لأن عنده هوى، فهو يتبع هواه في الحقيقة، وإن كان يدعي أنه يتبع المهاجرين والأنصار، فهذا إنما يتبع هواه، أو يسير على ما يخططه له الأعداء الذين يتظاهرون بالإسلام والدعوة إلى الله ولكنهم على غير طريق المهاجرين والأنصار، فالذي يُخِلّ بمنهج المهاجرين والأنصار لا يَخْلُ إما أن يكون جاهلا بطريقهم، وإما أن يكون متبعًا لهواه أو هوى غيره ممن يقلدهم ويسير في ركابهم، فهذا أمر يجب أن نتفطن له، واليوم كما تعلمون هناك غلاة ومتشددون يحملون أفكارا متشددة، متطرفة، ويعملون أعمالا مروعة باسم الجهاد كما يزعمون فيقتلون المسلمين والمعاهدين الذين حرم الله قتلهم، يقتلون النفس التي حرم الله، بدعوى الجهاد، وهذا نتيجة التشدد وعدم الفقه في دين الله عز وجل، وهناك في المقابل متساهلون يريدون من الناس أن يخرجوا عن الدين، يتسمون به فقط، ولكن يكونون على هواهم وعلى ما يريدون أو ما يريده لهم قادتهم وأئمتهم وجماعتهم وأحزابهم وإنما يكتفون باسم الدين، والسير على غير طريق الدين، فهذا خطر عظيم، يتخطف شباب المسلمين اليوم، إما التساهل والانحلال، وإما التطرف والغلو، والمطلوب هو الاعتدال والتوسط.


فهذا هو طريق النجاة، طريق الوسط والاعتدال، وهذا لا يحصل بدون أن تتعلم، أن تتعلم العلم النافع الذي يدلك على هذا المنهج السليم والطريق المستقيم من كتاب الله وسنة رسوله، لا من قول فلان ولا من قول علان، إنما تأخذ ما يوافق الكتاب والسنة، ودع عنك أقوال الناس الغالية والجافية، دعها عنك وابتعد عنها ولا تغتر بها، وأنتم في هذه الجامعة المباركة أنتم على سبيل تعلم منهج السلف الصالح الذي هو الصراط المستقيم، أنتم إن شاء الله على هذا المنهج، فعليكم بالتعلم تعلم العلم النافع، الذي به تسيرون على هذا الصراط المستقيم وتعرفون به ما خالفه من الدعايات المضللة، وهذه الدعايات المضللة تلبس لباس الإسلام، وزخرف القول غرورًا فكونوا على حذر منه، أنتم تسمعون الآن وتقرؤون في الصحف ما يُكْتَب مما يندى له الجبين، يُزَهِّدُون في العلم النافع، ويصفونه بالتشدد، ويَدْعُون إلى التساهل وما يسمونه بالتسامح، يدعون إلى التعددية، يدعون إلى الرأي والرأي الآخر، يدعون ويدعون، يريدون أن يخرجوا الناس عن الصراط المستقيم، الأمر ليس آراء أو اجتهادات، الأمر يُرْجَع فيه إلى الكتاب والسنة، نعم يحصل الاختلاف، تحصل الآراء والاجتهادات، إما عن قصد حسن وإما عن قصد سيئ، يحصل هذا، ولكن الذي يميّز لنا الصحيح من السقيم والضار من النافع والحق من الباطل هو الكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (النساء : 59) إلى الله إلى كتابه، إلى الرسول في حياته الرجوع إليه صلى الله عليه وسلم، وبعد مماته الرجوع إلى سنته، (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي مآلًا وعاقبة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" (صحيح الألباني)، هذا ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم عند حصول الاختلاف، دل على أنه يحصل الاختلاف، لكن الميزان موجود ولله الحمد، الذي به نعرف الحق من الباطل والخطأ من الصواب، وهو العرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، عن علم وبصيرة، نتعلم من كتاب الله ومن سنة رسوله ما نميز به بين الصحيح وغير الصحيح، لا بد من هذا الأمر.


الآن تسمعونهم تَدَخَّلُوا في أمور العقائد وصاروا ينكرون عقيدة السلف والإيمان بالأسماء والصفات والنهي عن عبادة القبور والأضرحة والشركيات، يسمون هذا تشددا وهذا احتكارا للحق!، وو.. إلى آخره.


تَدَخَّلُوا في شؤون المرأة التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بحقها في خطبة الوداع، أوصى صلى الله عليه وسلم بالنساء فقال: "استوصوا بالنساء خيرا" (صحيح الألباني) ، وقال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" (أخرجه البخاري ومسلم) ، وقال صلى الله عليه وسلم: "فاتقوا النساء فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (رواه مسلم) ، يدعون المرأة إلى خلع الحجاب، والسفور، يدعونها إلى السفر وحدها بدون محرم، يدعونها أن تتولى أعمال الرجال، ينكرون تحريم الاختلاط، اختلاط الرجال والنساء، ويعتبرون هذا تشددًا وتنطعًا واحتقارًا للمرأة وظلمًا للمرأة، وما عرفوا أن ظلم المرأة هو وضعها في غير موضعها، أن تحمل ما لا تطيق، أن تعرض للفتنة، أن تخرج من بيتها من غير احتشام ومن غير ضوابط شرعية.


تَدَخَّلُوا حتى في الأنكحة فصاروا ينكرون نكاح الكبير المسن وينكرون إنكاح الصغيرة ويقولون هذا من ظلم المرأة، ونسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو القدوة والمبلغ عن الله أنه تزوج أم المؤمنين عائشة، عقد عليها وهي بنت ست سنين ودخل بها وهي بنت تسع سنين، هذا زواج كبير من صغيرة، وهو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمدار على مصلحة المرأة، إذا كان الزوج كُفؤا صالحا لها فلا تحرمها منه، هذا هو حقها.


فهم يريدون بذلك إلقاء العراقيل في الزواج وأن تنطلق المرأة إلى ما تريد، لأن الزواج يعوقها، ويجعلها حبيسة البيت وطاعة الزوج، هم يريدون أن تنطلق، يقولون يجب تحديد سن زواج المرأة بثماني عشرة سنة ثماني عشرة سنة ! ثماني عشرة سنة تكون المرأة تجاوزت البلوغ وعنست! عنست، هم يريدون هذا، مين اللي يحدد ثماني عشرة سنة؟! الرسول عقد عليها وهي بنت ست سنين، ودخل بها وهي بنت تسع سنين وهو سيد البشر عليه الصلاة والسلام.


الله جل وعلا في القرآن جعل عِدّة التي لا تحيض لصغر، جعلها ثلاثة أشهر مثل اليائسة ﴿وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ (الطلاق : 4)، الصغيرات عدتهن ثلاثة أشهر أيضا إذا طُلِقن قبل أن يبلغن سن الحيض، فدل هذا على زواج الصغيرة وأنه صحيح، هذا في كتاب الله سبحانه وتعالى هم ينكرون ما ثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله واضحًا كوضوح الشمس في رابعة النهار، وغرضهم من هذا إطلاق سراح المرأة للحرية المزيفة التي هي ظلم للمرأة في الحقيقة وإضاعة للمرأة.


فلنتنبه لدسائسهم وأقوالهم وماذا يريدون، وأُحَذِّر من دخول هذه الأفكار إلى هذه الجامعة، بل يجب على هذه الجامعة معلمين وطلابًا وإداريين أن يحاربوا هذه الأفكار ويصرحوا ببطلانها، لأن هذه الجامعة هي القلعة الحصينة بإذن الله لمقاومة هذه الأفكار وأمثالها، هذه الجامعة هي وريثة العلم ووريثة العقيدة الصحيحة، أسسها إمام المسلمين، الملك عبد العزيز رحمه الله، بمشورة إمام المسلمين سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، ووضعوا لها المناهج الرصينة القوية التي تحصن أبناءها وتخرجهم إلى المجتمع أكفياء، قادة يحملون العلم ويحملون العمل، ويحملون الكفاءة الإدارية، فهي قلعة حصينة، يجب أن تقاوم هذه الأفكار، يجب على المدرسين أن يقاوموها في الفصول وأن يشرحوا بطلانها للطلاب، يجب على الطلاب أن يرجعوا إلى المدرسين فيسألوهم عنها حتى يعرف هؤلاء أن وراءهم من يرصد أفكارهم ويقاومها ولا يشعروا أن الأمر مُضَيَّع أو أنهم يعيشون في عالم مضيع، حتى يكفّ الله شرهم وكيدهم في نحورهم.


الواجب علينا عظيم أيها الإخوة ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ (فصلت : 30) لا بد من الأمرين أن نعلن أن ربنا الله، نقول لا إله إلا الله، وأن نعتقد هذا بقلوبنا وأن نطبقه بأفعالنا حتى لا نكون مثل من يقول ربنا الله وهم على خلاف ذلك: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ ( البقرة :8-9).


هذا وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


 [ الشيخ : صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ]

إرسال تعليق

0 تعليقات
* Por favor, não spam aqui. Todos os comentários são revisados ​​pelo administrador.