المصحف المرتل

شرح حديث جبريل وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان (5-2)


 وقوله صلى الله عليه وسلم: «وملائكته»؛ والملائكة: هم عالم غيبي، خلقهم الله سبحانه وتعالى من نور، وجعل لهم أعمالًا خاصة، كلٌّ منهم يعمل بما أمره الله به، وقد قال الله في ملائكة النار: ﴿ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]؛ فهم ليس عندهم استكبار عن الأمر ولا عجز عنه، يفعلون ما أُمروا به ويقدرون عليه، بخلاف البشر، فالبشر قد يستكبرون عن الأمر، وقد يعجزون عنه، أما الملائكة فخُلقوا لتنفيذ أمر الله، سواء في العبادات المتعلقة بهم أو في مصالح الخلق.

فمثلًا جبريل عليه الصلاة والسلام، أشرف الملائكة، موكل بالوحي، ينزل به من الله على رُسُلِه وأنبيائه، فهو موكل بأشرف شيء ينتفع به الخلق والعباد، وهو ذو قوة، أمين مطاع بين الملائكة؛ ولهذا كان أشرف الملائكة.

كما أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أشرف الرسل قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾ [النجم:5 - 7]؛ يعني علَّم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ﴿ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾؛ أي: ذو القوة الشديدة؛ وهو جبريل، ﴿ ذُو مِرَّةٍ ﴾؛ أي: ذو هيئة حسنة، ﴿فَاسْتَوَى ﴾؛ أي: كَمُلَ وعلا، ﴿ وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ﴾، وقال عز وجل: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾؛ أي: جبريل، ﴿ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ [التكوير: 19- 21].

ومن هؤلاء أيضًا من وكِّلوا بمصالح الخلق من جهة أخرى في حياة الأرض والنبات؛ مثل ميكائيل عليه الصلاة والسلام؛ فإن ميكائيل مُوَكَّل بالقَطْر- المطر- والنبات، وفيهما حياة الأبدان، حياة الناس وحياة البهائم، فالأول جبريل مُوَكَّل بما فيه حياة القلوب؛ وهو الوحي، وميكائيل مُوَّكل بما فيه حياة الأبدان؛ وهو القطر والنبات.

ومنهم إسرافيل عليه الصلاة والسلام وهو أحد حملة العرش العظام، وهو مُوكَّل بالنفخ في الصور، وهو قرن عظيم دائرته كما بين السماء والأرض، ينفخُ فيه إسرافيل، فإذا سمعه الناس سمعوا صوتًا لا عهد لهم به، صوتًا مزعجًا، فيفزعون ثم يُصقعون؛ أي يموتون من شدة هذا الصوت، ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [الزمر: 68]، تتطاير الأرواح من هذا القرن، من هذا الصور، ثم ترجع كل روح إلى بدنها الذي تعمره في الدنيا، لا تخطئه شعرة بأمر الله عز وجل؛ فكل هؤلاء الثلاثة موكَّلون بما فيه الحياة! فجبريل موكَّل بما فيه حياة القلوب، وميكائيل بما فيه حياة النبات والأرض، وإسرافيل بما فيه حياة الأبدان؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُثني على الله بربوبيته لهؤلاء الملائكة الثلاثة في افتتاح صلاة الليل، فكان يقول في افتتاح صلاة الليل بدل «سبحانك اللهم وبحمدك»، يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».

ومنهم من وُكِّل بقبض الأرواح وهو ملَك الموت، وله أعوان يساعدونه على ذلك، وينزلون بالكفن والحنوط للروح التي تخرج من الجسد إن كان من أهل الإيمان - جعلنا الله منهم - فإنهم ينزلون بكفن من الجنة وحنوط من الجنة، وإن كانوا من أهل النيران نزلوا بحنوط من النار وكفن من النار، ثم يجلسون عند المحتَضَرِ الذي حضر أجله ويخرجون روحه حتى تبلغ الحلقوم، فإذا بلغت الحلقوم استلَّها ملك الموت ثم أعطاهم إياها فوضعوها في الحنوط والكفن، فالملائكة تكفن وتحنط الروح، والبشر يكفنون ويحنطون البدن، فانظر إلى عناية الله بالآدمي، ملائكة يكفنون روحه، وبشر يكفنون بدنه؛ ولهذا قال الله عز وجل: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]؛ لا يفرِّطون في حفظها، ولا يفرطون فيها.

وملك الموت أعطاه الله تعالى قدرة على قبض الأرواح في مشارق الأرض ومغاربها، يقبضها ولو ماتوا في لحظة واحدة، لو فُرض أن جماعة أصابهم حادث وماتوا في آن واحد، فإن ملك الموت يقبض أرواحهم في آن واحد، ولا تستغرب؛ لأن الملائكة لا يُقاسون بالبشر؛ لأن الله أعطاهم قدرة عظيمة أشد من الجن، فالجن أقوى من البشر، والملائكة أقوى من الجن.

وانظر إلى قصة سليمان عليه الصلاة والسلام حيث قال: ﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ ﴾؛ عفريت؛ يعني: قوي شديد ﴿ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾ [النمل: 38، 39].

ومكان العرش في اليمن، وسليمان في الشام، مسيرة شهر بينهما، ومع ذلك قال له: ﴿ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾؛ وكان سليمان عادة يقوم من مقامه في ساعة معينة، فـ ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ [النمل: 40]، والثاني أسرع من الأول؛ أي: مدة بصرك ما ترده إلا وقد جاءك، ﴿ فَلَمَّا رَءَاهُ ﴾ حالًا رآه ﴿ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ﴾؛ قال العلماء: إن هذا الذي عنده علم من الكتاب دعا الله باسمه الأعظم، فحملت الملائكة العرش من اليمن إلى الشام في هذه اللحظة.

إذًا فالملائكة أقوى من الجن.

فلا تستغرب أن يموت الناس في مشارق الأرض ومغاربها وأن يقبض أرواحهم ملك واحد؛ كما قال الله: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السجدة: 11].

فإذا قال الله لهذا الملَك اقبض روح كل من مات، هل يمكن أن يقول لا؟ لا يمكن؛ لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم.

ولهذا لما قال الله للقلم: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، والقلم جماد، كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فالله عز وجل إذا أمر بأمر لا يمكن أن يعصي إلا المرَدَةُ من الجن أو من بني آدم، أما الملائكة فلا يعصون الله؟!

وهؤلاء أربعة من الملائكة.

والملَك الخامس مالك، الموكَّل بالنار، وهو خازنها، وقد ذكره الله في قوله عن أهل النار: ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزخرف: 77]؛ يعني: ليُمِتنا ويُهلكنا ويُرحنا مما نحن فيه! قال: إنكم ماكثون!

السادس: خازن الجنة: وَوَرَدَ في بعض الآثار أن اسمه «رضوان»؛ وهذا وكِّل بالجنة كما أن مالكًا وكِّل بالنار.

فمَن علِمنا اسمه من الملائكة آمنا به باسمه، ومن لم نعلم باسمه آمنا به على سبيل الإجمال؛ آمنا بعمله الذي نعلمه، وبوصفه، وبكلِّ ما جاء به الكتاب والسنة من أوصاف هؤلاء الملائكة.

مسألة: قلنا إن الملائكة عالم غيبي، فهل يمكن أن يُرَوا؟
الجواب: نعم قد يُرَون، إما على صورتهم التي خُلقوا عليها، وإما على صورة من أراد الله أن يكون على صورته! فجبريل رآه النبي صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلقه الله عليها في موضعين، في الأرض وفي السماء؛ في الأرض عند غار حراء قرب مكة، وفي السماء عند سدرة المنتهى؛ كما قال الله ﴿ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 13، 14]، رآه وله ستمائة جناح قد سد الأفق؛ أي: ملا الأفق كله وله ستمائة جناح، ولا يعلم قدرة الأجنحة إلا الله عز وجل، لكن إذا كان الشيء عاليًا وسد الأفق فمعناه أنه واسع جدًّا، هذا الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين، أحيانًا يأتيه بصورة إنسان كما في حديث عمر رضي الله عنه الذي معنا في قصة جبريل، فقد جاءه بصورة رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه الصحابة، والله على كل شيء قدير، قد أعطاهم الله سبحانه وتعالى ذلك أن يَتَصَوَّروا بصور البشر، إما باختيارهم وإما بإرادة الله، الله يأمرهم أن يكونوا على هذه الصورة فالله أعلم.

إنما هذه حال الملائكة-عليهم الصلاة والسلام، وتفاصيل ما ورد فيهم مذكور في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن علينا أن نؤمن بهؤلاء الملائكة وأنهم أقوياء أشداء، قال الله لهم في غزوة بدر: ﴿ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12].

فكانوا يقاتلون مع الصحابة في بدر، فيُرى الكافر يسقط مضروبًا بالسيف على رأسه ولا يدري من الذي قتله، والذي قتله هم الملائكة؛ لأن الله قال لهم: ﴿ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 12، 13].

فعلينا أن نؤمن بهم، من عَلمْناه بعينه آمنا به بعينه، وإلا فبالإجمال، وأن نؤمن بمن جاء عنهم من عبادات وأعمال على وفق ما جاء في الكتاب والسنة.

والإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة، ومن أنكرهم، أو كذَّب بهم، أو قال: إنهم لا وجودَ لهم، أو قال: إنهم هم قوى الخير، والشياطين هم قوى الشر، فقد كفر كفرًا مخرجًا عن الملة؛ لأنه مكذب لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين.

وقد ضل قوم غاية الضلال حيث أنكروا أن يكون هنالك ملائكة - والعياذ بالله - وقالوا: إن الملائكة عبارة عن قوى الخير وليس هناك شيء يسمى عالم الملائكة.

وهؤلاء إن قالوا ذلك متأولين فإن الواجب أن نبيِّن لهم أن هذا تأويل باطل، بل تحريف، وإن قالوه غير متأولين فإنهم كفَّار مكذبون لما جاء به الكتاب والسنة وأجمعت عليه الأمة من وجود الملائكة، والله قادر على أن يخلق عالَمًا كاملًا لا يحس به البشر عن طريق حواسهم المعتادة، فها هم الجن موجودون ولا إشكال في وجودهم، ومع ذلك لا تدركهم حواسنا الظاهرة كما تدرك الأشياء الظاهرة، ولله تعالى في خلقه شؤون.

يتبع ...

إرسال تعليق

0 تعليقات
* Por favor, não spam aqui. Todos os comentários são revisados ​​pelo administrador.